البرزخ في اللغة: "الحاجز بين الشَّيئين والمانع من اختلاطهما وامتزاجهما"[1]. قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾[2]، وقال سبحانه: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[3]. فالقرآن الكريم أراد من هذا الاستخدام للفظ البرزخ أن يوضح أنّ هناك عالماً آخر يفصل بين الدُّنيا والآخرة، ولا بدّ للإنسان من المرور به كمقدّمة ليوم القيامة، وفي الرِّوايات ورد أنّ البرزخ هو القبر، وأنَّه عالم الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "البرزخ القبر، وهو الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة"[4]. وفيما يلي نستعرض أهمّ آثار الذنوب في البرزخ:
1- سكرات الموت وشدّة النزع:
قال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾[5].
سكرات الموت من العقبات الصعبة، فشدائدها تُحيط بالمحتضر من جميع الجهات، فمن جهةٍ يواجه شدّة المرض والوجع وذهاب القوى من البدن، ومن جهةٍ أخرى يواجه مشهد العائلة من بكاء وعويل ووداع أحبّة، ومن جهةٍ ثالثة فراق ما جمع في عالم الدُّنيا من مالٍ وأملاكٍ وغير ذلك، ومن جهةٍ رابعةٍ يواجه قدومه على نشأةٍ هي غير هذه النشأة، ثمّ إنّ عينيه تريان أشياء لم ترها من قبل، وقد اجتمع عليه إبليس وأعوانه ليوقعوه في الشكّ، وهم يحاولون جاهدين أن يسلبوه إيمانه، ليخرج من الدُّنيا بلا إيمان، هذا كلّه إلى جانب هول حضور ملك الموت، وبأيّ صورةٍ وهيئةٍ سيأتي، وبأيّ نحوٍ سوف يَقبض روحه[6].
فملك الموت عزرائيل عليه السلام لا يأتي بصورةٍ واحدةٍ لكلِّ النَّاس، فالصورة إمّا قبيحةٌ وإمّا جميلةٌ، بل إنّ شدّة قُبح صورته، أو شدّة جمالها مرتبطةٌ بأعمال الإنسان في الدنيا، فإذا كانت أعماله صالحةً أتاه الملك بصورةٍ جميلة، وإذا كان مبتلىً بالرذائل والمعاصي أتاه الملك بصورةٍ قبيحةٍ.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ما من الشِّيعة عبدٌ يُقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّةٍ تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته"[7].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُشبِّه فيه الموت بالمصفاة، فيقول: "الموت هو المصفاة تُصفّي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يُصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، وتُصفّي الكافرين من حسناتهم، فيكون آخر لذّةٍ أو راحةٍ تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم"[8].
وعليه فإنّ قبض روح الإنسان شدةً أو ضعفاً، وصورة الملك قُبحاً وحسناً مرتبطة بطبيعة الأعمال في نشأة الدُّنيا، والتي تظهر آثارها البرزخية من لحظة النّزع، وتستمر في كلّ عقبات البرزخ، فالإنسان لحظة سكرات الموت والاحتضار يُشاهد صور أعماله وآثارها.
2- وحشة القبر وغربته:
كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد بن أبي بكر: "يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته"[9].
وحشة القبر هي أول المنازل التي يمرّ بها الإنسان، وقد عُبّر عنها في الروايات بتعبيرات متعدِّدة، وهذه التعبيرات إمّا أهوال مستقلّة بذاتها، أو تُعبّر عن وحشة القبر لكن بألفاظ متعدِّدة، من قبيل: غمّ القبر، ضيق القبر، ظلمة القبر، وحشة القبر[10].
وإنّ لهذا المنزل أهوالاً عظيمة ومنازل ضيّقة ومهولة، يصعب تصوّرها على العقل البشري، ولذا شرحها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام. تبدأ المنازل بوحشة القبر، فضغطة القبر، ثم المسألة في القبر وهكذا. ونحن نذكر هذه الأمور باختصارٍ شديدٍ للفت النَّظر إلى علاقتها بطبيعة الأعمال في عالم الدُّنيا، فالذّنوب والمعاصي تظهر آثارها في ذلك العالم.
وما يؤيّد هذا الأمر (أهوال القبر) ما ورد في الروايات من استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأنّ للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يُقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة، ليأخذ أهبّته، ثم يُقدّمه إلى شفير القبر"[11].
وليست الوحشة حال جميع النَّاس لزاماً، بل هناك فئةٌ من النَّاس يؤمنُها الله منها، كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين...وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين..."[12].
هذا الدُّعاء - وغيره من الرّوايات - يدلّ على التَّرغيب في فعل ما يُزيلُ وحشةَ القبر، وما تستأنس به النُّفوس، وهي الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة، وذلك لما روي من أنّهما يظهران بصورةٍ حسنةٍ في القبر، وهكذا الأعمال السيّئة تؤدّي إلى وحشة القبر وشدّة أهواله، روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "... فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنتُ أُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، قال عليه السلام: فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنّة، قال: ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قط أحسن منك! فيقول: أنا رأيك[13] الحسن الذي كنتَ عليه، وعملك الصالح الذي كنتَ تعمله..."[14].
3- ضغطة القبر:
ضغطة القبر تعني التَّضييق على الميِّت، وإنّ طبيعة الأعمال هي التي تُحدّد شدّة هذا الشّعور بالضِّيق والأذى في عالم البرزخ، وهي تُحدّد أيضاً أمَدَ استمرار هذه الضَّغطة التي قد تكون شعوراً وأذى روحياً مؤقّتاً يزول بعد حين، وقد يستمر أمداً طويلاً، وقد يبقى إلى البعث والنشور.
ويُفهم من الرِّوايات أنّ هذه الضَّغطة يختلف حالها من شخصٍ إلى آخر، وذلك حسب درجة إيمانه وطبيعة عمله في نشأة عالم الدُّنيا، وأنّ هذه الضَّغطة لا تشمل كلّ الأموات، ومنها ما دلَّت عليه الروايات بأنّ القيام ببعض الأعمال يؤدّي إلى النجاة من ضغطة القبر.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام "قلتُ: جعلتُ فداك، فأين ضغطة القبر؟ فقال: هيهات ما على المؤمنين منها شيء. والله، إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه، فتقول: وطأ ظهري مؤمن، ولم يطأ على ظهرك مؤمن، وتقول له الأرض: والله، كنتُ أُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فتفسح له مدّ بصره"[15].
وتعبير الإمام الصادق عليه السلام في الرواية المتقدّمة "ما أقلّ من يفلت منها" يدلّ على أنَّ بعض المؤمنين قد يفلت من ضغطة القبر، كما هو ثابت في حقّ السيّدة فاطمة بنت أسد، وذلك حسب روايات أهل البيت عليهم السلام حيث رُفعت عنها ضغطة القبر ببركة نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبرها الشَّريف.
وينبغي الإشارة إلى أن ّضغطة القبر على المؤمن - لو حصلت - فهي من باب تطهيره من الذّنوب المتبقية في عالم الدُّنيا، فيخرج نقياً إلى عالم القيامة، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النِّعم"[16].
وفي الرّوايات أنّ الميّت يتعرّض لضغطة القبر أو ضمّة الأرض، وأنّ هناك أعمالاً تؤدّي إلى ضغطة القبر أو إلى شدّتها، نذكر منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "عذاب القبر يكون من النميمة، والبول، وعزب[17] الرجل عن أهله"[18].
وعن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - عندما وصف سعد - قال: "إنّما كان من زعارة[19] في خلقه على أهله"[20].
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثٌ من الذّنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على النَّاس، وكفر الإحسان"[21].
هُدىً وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الطريحي، مجمع البحرين، ج1، ص186.
[2] سورة الرحمن، الآيتان 19 - 20.
[3] سورة المؤمنون، الآية 100.
[4] الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص553.
[5] سورة ق، الآية 19.
[6] الشيخ عباس القمي، منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، ص107، تعريب وتحقيق: السيد ياسين الموسوي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، محرم الحرام 1419.
[7] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص157.
[8] م.ن، ص153.
[9] م.ن، ص218.
[10] الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص562، مؤسسة فقه الشيعة - بيروت - لبنان، لا.مط، الطبعة الأولى، 1411 - 1991م.
[11] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا. مط، الطبعة الثانية، لا. ت.
[12] الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، بحار الأنوار، ج91، ص123.
[13] الرأي: يعني الاعتقاد والإيمان.
[14] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص130.
[15] م.ن.
[16] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص221.
[17] عزب الرجل عن أهله معناه ابتعاده عن فراشه وطعامه، مع ظلمه لزوجته.
[18] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص309، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، لا. مط، لا.ط، 1385 - 1966م.
[19] الزعارة: - بتشديد الراء وتخفيفها - شراسة الخلق، والرجل شرس أي سيء الخلق.
[20] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص261.
[21] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص312.