لقد أشارت جملة من الآيات القرآنية الشريفة إلى مسألة العصمة، وبينت خصوصياتها ببيانات مختلفة، منها ما ورد على نحو قانون عام، وبعضها الآخر ورد في بيان عصمة بعض الأنبياء (عليهم السلام) بأعيانهم، دون أن يعني اختصاص الملاك فيهم.
فمن النحو الأول قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾[1].
وقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾[2].
إن المستفاد من هذه الآيات الشريفة وأمثالها، أن سبب المعصية والغواية والضلال هو إبليس، وأنه هو الذي يوسوس لبعض الناس، ويزين لهم المعاصي ويحببها إليهم، إلا أنه ليس قادرا على التأثير على جميع الناس، لأن قسما منهم مخلصون، الذين عبر تعالى عنهم بأنهم عباده، وهم الذين ليس له عليهم سلطان، فلا يستطيع غوايتهم، ولا التأثير فيهم، وهو معنى العصمة.
ولا يخفى ما في التعبير بأنهم عباده تعالى من تكريم لهم، لأن معناه أنهم خلعوا عن أنفسهم ثوب العبودية أمام كل من عداه تعالى، فلا يؤثر في أنفسهم شيء سواه.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[3].
والظلم مأخوذ من الظلمة، وهي ضد النور، وله مصاديق متعددة من ظلم النفس وظلم الآخرين، وله درجات مختلفة كذلك، وردت في جملة من الآيات الشريفة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[4].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[5].
وقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾[6].
وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ﴾[7].
فمن مصاديق الظلم الابتعاد عن نور الهداية، والاقتراب من اقتراف المعاصي والذنوب، وقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ شامل لجميع درجات الظلم ومصاديقه، والنتيجة أن من ابتلي بشيء منها لن يناله عهد الله تعالى، الذي هو النبوة والإمامة.
ومن النحو الثاني، أي ما يتحدث عن عصمة بعض الأنبياء بالخصوص، وردت آيات كثيرة كذلك، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾[8].
وهاتان الآيتان صريحتان في أن كل ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله) موحى به من عند الله تعالى، لا يتطرق إليه الخطأ والسهو، ولهذا وجب إتباعه، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظً﴾[9].
ولا معنى لوقوعه في الخطأ أو الذنب أو نحوه، ومع ذلك يقال بأن طاعته طاعة لله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[10].
فقد ربطت عقاب الله تعالى بعدم إتباع أوامر الرسول، ولو لم يكن النبي منزها عن المعصية وأخواتها لم يكن لهذا الربط أي معنى، كما لم يكن ليصح أمره تعالى بأخذ كل ما آتاهم الرسول، ولا النهي عما نهاهم عنه.
ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾[11].
والمراد بهذه الآية الشريفة أن الله تعالى يريد أن يطهرهم من أي نحو من أنحاء الرجس، فيكونون بذلك خالصين له تعالى.
ويظهر هذا المعنى بملاحظة معاني كلمة «الرجس» في اللغة، فإن من معانيها: القذر، والنجاسة، والشك، والعقاب، وكل عمل قبيح، ومستقذر[12].
ولا يخفى أن الإرادة الإلهية في المقام إرادة تشريعية، وليست تكوينية، فلا يرد عليها أنهم يجبرون على ذلك، ولكنها واقعة حتما، بملاحظة أن الإرادة الإلهية منصبة على إذهاب الرجس عنهم، ولم يقل أنه يريد أن يمنعهم من الرجس، فحاصل الآية أنهم قد اختاروا الابتعاد عن كل رجس، فكأنهم لا يرون الرجس، ولا ينظرون إليه حتى كأنه غير موجود في قاموسهم، ونتيجة لذلك تحققت الإرادة الإلهية في إبعاد الرجس عنهم بإبعادهم له عن أنفسهم.
والآيات التي تشير إلى عصمة الأنبياء كثيرة في القرآن الكريم.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] سورة ص، آية: 82-83.
[2] سورة الحجر، آية: 39-42.
[3] سورة البقرة، آية: 124.
[4] سورة لقمان، آية: 13.
[5] سورة القصص، آية: 16.
[6] سورة التوبة، آية: 36.
[7] سورة ص، آية: 240.
[8] سورة النجم، آية: 3-4.
[9] سورة النساء، آية: 80.
[10] سورة الحشر، آية: 7.
[11] سورة الأحزاب، آية: 33
[12] لسان العرب، ابن منظور، ج5، ص146، مادة رجس.