في مدرسة القرآن دروس كثيرة وغنيّة في تعليم التالي للكتاب (المتتلمِّذ على يديه) كيف يحترم الآخر (موالفاً) أم (مخالفاً).
ففي حين ينتقد القرآن أهل الكتاب الذين لا يحترمون بعضهم بعضاً، ويرى كلُّ أهل كتاب أنّهم أرقى وأفضل ديناً ومقاماً عند الله من غيرهم، وأنّهم (أي الطرف الآخر) ليس على شيء، كما في اتّهام اليهود للنصارى أنّهم ليسوا على شيء، وكما في اتّهام النصارى اليهود أنّهم ليسوا على شيء، وفي حين ينهى القرآن عن السخرية والاستخفاف بالآخر عسى أن يكون خيراً من الساخر عند الله، وأن لا ينظر نظرة دونية أو ازدرائية إلى مَن هم (بُسطاء) أو ما يصطلح عليهم وجهاء قوم نوح بــ(الأراذل)، وأن لا يرى أهل الأديان السابقة أن لا سبيل عليهم في الأُمّيين (أهل مكّة)، فيعمدون إلى انتهاك حقوقهم، أو يبيحون الاعتداء عليهم والسرقة منهم، أو التجاوز عليهم بأي نحو من أنحاء التجاوز والافتراء..
وفي حين يُحدِّثنا القرآن عن استغراب (شُعيب (ع)) احترام قومه لبعض الأشخاص الذين كانوا معه، من دون أن يحترموا موقعه كــ(نبيّ)، وشأنه باعتباره ممثلاً للسماء، ومقامَهُ بصفته داعيةً إلى الله وإلى ما ينفعهم..
وفي حين يُعلِّمنا القرآن أنّ مخاطبة النبيّ (ص) ومناداته، ومسارّته (مناجاته) يجب أن تكون بشكل لائق محترم يتناسب ومقام النبوّة، فلا يُنادى من وراء الحجرات، وأن تُحترَم خصوصيته البيتية، فلا يُطيل المدعوون إلى ضيافته الجلوس عنده، وأن لا يحادثوه في ما يجمل وما لا يجمل، وبما يستحقّ وما لا يستحقّ من أحاديث تشغله أو تصرفه عن اهتماماته وشؤونه النبويّة والمجتمعية والتعليمية الأُخرى.
في مقابل كلّ ذلك، يُلفت القرآن النظر إلى احترام المقام والشأن والدرجة، وتعظيم مَن حقّهُ التعظيم: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا﴾ (نوح/ 13)، لا بمعنى التوقير البينيّ أي بين بني الإنسان نفسه، بل بما يستحقّه مقام الربوبية من تعظيم، وإجلال، واحترام، وإكبار، بحيث لا يعيش الإنسان المعصية في حضرة (الشاهد) و(الحاكم) معاً، ويجعل الله تعالى أهونَ الناظرين إليه، وأخفَّ المطّلعين عليه.
ويلفت الانتباه إلى احترام مقامات النبوّة كلّها، بل احترام وصايا الأنبياء في (المودّة في القربى)، واحترام مقام (الوصيّ) و(الوليّ)، كما احتُرِم مقامُ النبيّ.
بل، إنّ القرآن يُلفت العناية إلى احترام الحيوان،كما في احترام سليمان (ع) للنمل فلم يُحطِّم مساكنها، واحترام الكتاب (الرسالة) الواردة من شخص مرموق، كما في احترام (بلقيس) ملكة سبأ لرسالة سليمان (ع) واهتمامها البالغ بها، بالتعاطي معها على أنّها (كتابٌ كريم).
وكما في احترام الوقت والموسم والحال، قال تعالى في صيد المُحرِم: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ (المائدة/ 96)، وقال سبحانه في الهدنة: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ (التوبة/ 37)، وقال جلّ جلاله في الصوم: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ (البقرة/ 187)، وقال عزّوجلّ في حُرمة معاشرة النِّساء في المساجد لأنّها أماكن مخصوصة للعبادة: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ (البقرة/ 187)، وفي احترام المال وعدم إعطائه للسفيه الذي لا يُحسِن التصرُّف به (أيّ إنّه لا يحترمه)، يقول تعالى: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النِّساء/ 5).
وهكذا في عدم مقاربة النِّساء في المحيض، وفي كتابة الدَّين وتوثيقه، وفي أي حكم إلهيّ أو تشريعيّ.. وبمعنى آخر، فإنّ للحلال والحرام - كما في الكتاب الكريم - حرمتهما، وأي تجاوز عليهما يعدّ اعتداءً أو تعدّياً على حدود الله (شريعته)، والمراد بالحُرمة في أحد أهم معانيها الاحترام: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ (الحجّ/ 30).
وإذا كان القرآنُ - كما في خطاب الله تعالى – يُعلِّم موسى (ع) أن يخلع نعليه لأنّه في الوادي المقدّس (طوى) احتراماً للموقع الذي تجري فيه مكالمة الله، فإنّ في ذلك درساً لاحترام المواقع المقدّسة الأُخرى أيضاً في أن لا ندخلها منتعلين.
وكما أنّ من آداب احترام التلاوة لآيات الله في كتابه المجيد أن يتطهَّر الإنسان: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة/ 79)، فإنّ التزام الطهارة في عموم العبادات، وإن لم يكن واجباً في بعضها، فهو من باب احترام العمل الذي يُقبلُ الإنسان عليه، زيارةً للكعبة المشرَّفة، أو المسجد النبويّ، أو أي مرقد مُبجَّل ومُحترم عند المسلمين، أو لأي عمل صالح عبادياً كان أم غير عبادي.
وفي الجملة، فإنّ القرآن كتابُ الاحترام بامتياز، يدعو إلى احترام القيم والأخلاق والعلاقات البينية المبنية على رباط مقدّس، كالزوجية، والأخوّة الإيمانية، واحترام أصحاب الديانات الأُخرى ممّن لا يناهضون ويعادون ويضطهدون المسلمين، بل يدعو القرآن إلى التعامل بالبرّ والعدل معهم: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة/ 8).
ومن خلال هذا الاستعراض السريع وغير المستوفي لكلِّ إشارات القرآن للاحترام، نخلص إلى أنّ القرآن يعتبر (الاحترام)، وإن لم يرد فيه تعبيرٌ باللفظ، قيمةً من القيم الأساسية التي تُشادُ عليها الحضارات والمجتمعات الإنسانية الربّانية، والأمثلة التي استللناها من مدرسة القرآن ومنهجه العظيم، للدلالة لا للحصر، وبإمكان كلّ قارئ للقرآن أن يجد احترامات القرآن مبثوثة في كلّ مكان، سواء في خطاب الأنبياء لأقوامهم، أو خطاب الأبناء لآبائهم، أو خطاب الآباء لأبنائهم، أو في مخاطبة أهل الكتاب، أو المختلف والمخالف الآخر عموماً لاسيّما من خلال قاعدة الانطلاق من المساواة مع المُحاوَر أو المُخاطَب: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ/ 24)، وليس بين أيدينا احترامٌ للمختَلِف أشدَّ من احترام القرآن لهما.
إلّا أنّ القرآن يُقرِّر أيضاً قواعد للخيرية والأفضلية واحترام الأكثر علماً وعملاً وتقوىً وأخلاقاً: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13)، وما دعوةُ القرآن المفتوحة لــ(التعارف) إلّا دليلٌ آخر على أنّ منطق القرآن هو احترام الاختلافات لما يترتَّب عليها من فوائد ومردودات طيِّبة على المجتمع الإنساني عموماً.