د. مجدي الهلالي
مما لا شكّ فيه أنّ النفس البشرية لها مطالب دائمة تسعى إلى نيلها، وحظوظ تعمل على الفوز بها، وأحلام تتمنى تحقيقها، وهي حين تسعى لتنفيذ مآربها والهوى هو ما تميل إليه النفس، والنفس بطبيعتها تهوى الراحة والكسل وتكره المشقة والتكليف، تعشق الشهوات الحسية كشهوة البطن، والفرج، وجمع المال، والشهوات المعنوية كشعورها بالعلو والرفعة عمن حولها، وحب الجاه والسلطان وامتلاك قلوب الناس وأن يشار إليها بالبنان، وتطرب بالمدح والثناء عليها.
والنفس حين تلح على القلب ليأمر الجوارح بتنفيذ طلباتها لا تنظر إلى العواقب المترتبة على ذلك، فكلّ ما تريده هو الشعور بالنشوة واللذة والسعادة سواء كانت حسية أو معنوية.
وحظوظ النفس لا تنتهي أبداً، فإن فُتح لها باب طلبت الآخر، وإن أُعطيت شيئاً من حظوظها ألحت في طلب المزيد.
ولقد خلق الله – عزّ وجلّ – هذه النفس بهذه الميول والصفات لتكون هي المحك الرئيسي لصدق عبوديتنا له، فمن أراد أن يكون عبداً لله فليخالف نفسه، وهواها، وليطع أوامر ربه وليجتنب نواهيه، أما من انهار أمام نفسه ورغباتها وشهواتها فهذا هو عبد نفسه وإن ادعى غير ذلك.
والناس أمام نفوسهم على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: قسم أيقن أنّ أعداءه هي نفسه التي بين جنبيه فرفع رأية الجهاد عليها وشهر سيفه أمامها، خالف هواه وفطم نفسه عن رغباتها وشهواتها ولم يعطها من الحظوظ إلا الحظ المباح بلا توسع يطغيها ولا منع يُفسد عليه أعماله وعباداته.
فقد ساق نفسه وباعها إلى الله فرحاً بالثمن الغالي الذي بشره الله به: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...) (التوبة/ 111).
فهذا هو العبد الحقيقي لربه ومولاه الذي نصر الله على نفسه فنصره الله في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ...) (الحج/ 40).
فما من معركة أمام الباطل يخوضها إلا وينصره الله فيها.
ومما يدعو للأسف أنّ هذا القسم من الناس يندر وجوده بيننا ومن الصعب العثور عليه وإن كان موجوداً بصورة دائمة على مر الأزمان ولكن بنسب متفاوتة كما قال رسول الله (ص): "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"[1].
أما القسم الثاني: فقسم قد سار وراء نفسه وهواها لا يتخلف عن طلب تطلبه ولا شهوة تريدها، هذا الصنف سائر إلى الهلاك لا محالة – إن لم تتداركه رحمة من ربه – ولم لا وقد استبدل عبادة ربه وخالقه ومولاه بعبادة نفسه وهواها فانطبق حاله مع قول الله – عزّ وجلّ – (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) (الفرقان/ 43)، فنفسه تسوقه إلى الأرض بطينها وشهواتها فأطبقت عليه الدنيا من كلِّ جانب، وغرق في بحرها، وأصبح أسيراً لنفسه وهواها، غافلاً عن عبادة ربه، ومما يثير الحزن في النفس أنّ أصحاب هذا القسم كثيرون – على عكس القسم الأوّل – فما أيسر العثور عليهم ورؤية حالهم وما آلوا إليه من عبودية تامة لنفوسهم.
أما القسم الثالث: من الناس فقسم قد خالف نفسه تارة وسار وراءها تارة أخرى، ففيه عبودية لله وعبودية لنفسه تختلف نسبة كلّ منهما من شخص لآخر بحسب حجم اتباعه لأوامر ربه أو ابتعاده عنها واتباعه لهوى نفسه.
فلقد انتصر أصحاب هذا القسم على نفوسهم في مواضع كثيرة، وانتصرت عليهم في مواضع أخرى، ففيهم الكثير من مظاهر القوة والضعف أمام نفوسهم.
وهذا الصنف موجود بيننا، والكثير منا – إن لم يكن أغلبنا – يندرج تحت هذا القسم وللأسف الشديد أنّ البعض قد خدعتهم مظاهر قوتهم أمام أنفسهم في بعض المواضع – وبخاصة المحسوسة والمرئية – وظنوا أنهم قد انتصروا عليها انتصاراً تاماً ولم ينتبهوا إلى أساليب خداعها، فمنعوا عنها حظوظها الظاهرة، وانساقوا وراء حظوظها الخفية، فانتصرت عليهم نفوسهم، وساقتهم أمامها دون أن يشعروا بذلك.
حظوظ النفس لا تنتهي أبداً، فإن فتح لها باب طلبت الآخر وإن أعطيت شيئاً من حظوظها ألحت في طلب المزيد
من هنا نقول إنّه يخطئ من يظن أنّ المعركة مع النفس معركة سهلة وفي مجالات محدودة، بل هي معركة ضخمة لا تنتهي إلا بالموت كما قال أحد الصالحين: "يموت المؤمن وسيفه يقطر دماً".
لذلك ينبغي علينا أن نداوم على محاسبة أنفسنا والتفتيش الدائم داخلها، فمن خلال ذلك يمكننا أن نضع أيدينا على نقاط ضعفنا أمامها فيسهل علينا بعد ذلك تحويل هذا الضعف وهذه الهزيمة إلى قوة ونصر وما ذلك على الله بعزيز، فمواضع ضعف الإنسان أمام نفسه كثيرة منها الظاهر الجلي الذي لا يحتاج إلى بيان كالانسياق وراء الشهوات والمغريات، ومنها الخفي الذي يحتاج إلى بعض البيان.
مظاهر ضعف الإنسان أمام نفسه:
مظاهر ضعف الإنسان أمام نفسه كثيرة نذكر منها:
- كثرة الحديث أمام الناس عن النفس بما يزكيها ويرفعها فوق مستوى الأقران، وعدم الملل من الحديث عن البطولات والإنجازات السابقة، والمباهاة والتفاخر بأي مظهر من مظاهر القوة أو الجاه أو السلطان أو النسب أو الأولاد أو المال وغير ذلك مما يجوز فيه التفاخر.
- الخوف والخجل من الظهور أمام الناس بمظهر الجاهل، أو المحتاج إلى المعرفة، أو الدراسة والفهم والحرص الشديد على عدم الوقوع في الخطأ أمام الآخرين، وإذا ما طُلب منه فعل شيء لا يقدر عليه لا يقول لا أستطيع، وإذا مازُجٍّ في أسئلة في دين الله أجاب دون أن يعلم خوفاً من ظهوره بمظهر الجاهل والمحتاج إلى المعرفة ومن ثمّ انتقاص قدره عند الناس.
- لا يريد أن يتفوق عليه أحد من أقرانه، "وحين لا يملك التغيير الواقع وإثبات تفوقه على غيره ممن يضعه الناس في مصاف المتفوقين فما عليه إلا أن يستره بغمطه وجحوده وتنقيصه وبالتعالي عليه في تصرفات وأعمال من أنها إشعار الآخرين بأنّه ذو امتياز خاص"[2].
- الاعتداد بالرأي فهو حين يناظر أحداً من الناس يستنكف أن يرد عليه أو يخالفه في الرأي ولا يهدأ إلا إذا تنازل من يناظره عن رأيه وأبدى اقتناعه بما هو مقتنع به.
- عدم الاعتراف بالخطأ والعمل على تبرير أخطائه بشتى الوسائل.
- ضيق الصدر بالنقد والنصيحة، بل وقد يقيم صاحب هذه النفس المريضة الدنيا ولا يقعدها إذا ما كان الناصح أقل منه سناً أو شأناً وجاهاً أو سبقاً، وقد يتغير قلبه تجاه ناقده فيطلق لسانه فيه، ويتحاشاه، ويعمل على إبعاده عن مجالسه قدر الإمكان.
- الشعور بالنشوة والفرح عند مدح الآخرين له ويعمل على ألا تخلو مجالسه من مادحيه، وكثيراً ما يسعى إلى استنطاق ألسنة الناس بالمدح والثناء عليه بتعمد وتكرار ذكر محاسنه وإنجازاته.
- الفرح والسرور إذا ما رآه غيره في موضع حسن يستحق المدح، والحزن والابتئاس إذا ما رُؤي في موضع يعرضه للذم.
- حب الرئاسة والصدارة وأن يشار إليه بالبنان، والحزن والضيق إذا ما تخطاه الاختيار، ومحاولة تشويه صورة من وقع عليه الاختيار والعمل على تصيد الأخطاء له وإشاعتها بين الناس.
- صعب القيادة فهو يريد أن يخضع الناس له، ولا يخضع هو لغيره بسهولة.
- ولا يعترف بعيوبة ونواقصه بل ويحرص على إخفائها، ويخجل من ذكر ماضيه إن كان فيه ما يشينه.
- لا يقبل أن يقصر أحد في حقِّ من حقوقه، أما بالنسبة إليه فلا بأس من التقصير في حقوق الآخرين، ومبرراته لذلك كثيرة.
- إساءة الظن بالآخرين وتصيد الأخطاء لهم وكثرة نقدهم ونصيحتهم دون مراعاة للآداب الشرعية للنصيحة.
- عدم الرفق بالناس إذا ما كان في مقام المعلم أو الموجه، فالزجر والتعنيف والتوبيخ سمة من سماته.
- المن على الآخرين بخدماته ومعروفه، وعدم الملل من تكرار الحديث عن هذه الخدمات في جلساته الخاصة، وينتظر دوام الشكر والعرفان بالجميل ممن خدمه، وأن يسارع هذا المخدوم إلى قضاء حوائجه، ومبادأته بالسلام والوقوف له إذا ما رآه وإن لم يفعل فالتشهير والتجريح والسخرية والاستهزاء هو الجزاء المنتظر.
- لا ينسب أي فضل أو نعمة تصيبه إلى الله بل ينسبها إلى مواهبه وقدراته وإمكاناته، وأنّه لولا هذه المواهب ما تواردت عليه النعم.
- عدم حب الخير للآخرين، والحزن والضيق إذا ما تواردت نعمة على أحد أقرانه دونه.
- السخرية والاستهزاء بالآخرين، في حين أنّه لا يقبل أن يسخر منه أو يستهزئ به أحد.
ومن مظاهر الضعف النفسي الذي قد يكون موجوداً في نفوس البعض:
- عدم القدرة على مواجهة الآخرين بأخطائهم لشعوره بالضعف أمامهم، وعدم قدرته أيضاً على تحمل نتيجة أخطائه فإذا ما صارحه الآخرون بها تهرب منها وتنكر لها، وقد يجره ذلك إلى الكذب لينجو بنفسه من هذه المواجهة.
- سهولة التنازل عن رأيه ومواقفه خوفاً من الآخرين، ومن الهزيمة أمامهم، وللأسف الشديد أنّه بذلك قد هُزم أمام نفسه وهو لا يدري، بل إنّه في كثير من الأحيان قد يكون له رأي مخالف لما يقال حوله لكنه لا يجاهر به خوفاً من مواجهة الآخرين وتعرضه للوم والسخرية منهم ومن ثمّ انكساره أمامهم.
الأسباب:
والأسباب المؤدية إلى ظاهرة الضعف النفسي كثيرة نذكر منها:
1- عدم اهتمام الأبوين بغرس المعاني الصحيحة في نفس الابن منذ الصغر بل والعمل على غرس المعاني المضادة – دون قصد – كإشعار بتميزه على أقرانه وأنّه الأحسن والأفضل والأذكى والأشرف نسباً والأكثر مالا، والعمل على الانتقاص من الآخرين وإشعاره بأنّه مميز عنهم، والإكثار من مدحه والثناء عليه بسبب وبدون سبب، وتلبية جميع طلباته النافع منها والضار، وعدم محاسبته وعقابه وتوجيهه إذا ما أخطأ في حقِّ نفسه أو غيره، بل العمل على تبرير هذه الأخطاء أمامه مما يؤدي إلى تماديه في الخطأ.
2- وقد يكون أسلوب التربية عند الأبوين – وبخاصة الأب – فيه من الغلظة والشدة والقهر ما يجعل الابن ينغلق على نفسه وينهزم أمامها فيحاول بعد ذلك إثبات ذاته أمام الآخرين فيكثر من الحديث عن النفس وعن بطولات وهمية وإنجازات مزعومة هو بطلها، أو تنعدم شخصيته، وينكسر أمام نفسه فلا يستطيع أن يرفع رأسه أو يدافع عن آرائه ومعتقداته أمام الآخرين، فما أسهل هزيمته أمام غيره في أضعف المعارك.
3- وجود نقاط ضعف في البناء الداخلي أو البيئة المحيطة بالشخص كعدم استكمال دراسته أو عدم القدرة على الاستيعاب أو رقة حال الأسرة أو غير ذلك من نقاط الضعف، فيتولد عن ذلك محاولة إثبات الذات وتعويض هذا النقص في المحيط الخارجي فينشأ الاعتداد بالرأي والعمل على فرضه على الآخرين ومحاولة الظهور بمظهر العارف بمواطن الأمور، العالم بكلِّ شيء، وعدم الملل من الحديث عن النفس بما يزكيها ويرفعها عمن حولها.
4- وجود بعض المواهب والقدرات لدى الشخص، وعدم تربيته منذ الصغر على أنّ الله – عزّ وجلّ – هو الذي منحه إياها، وأنّ ذلك يستوجب منه دوام الشكر لله الخالق سبحانه وتعالى فينشأ عن عدم التربية على ذلك الإحساس بالتفوق على غيره ومقارنته الداخلية بينه وبين الآخرين والعمل على إثبات أفضليته الدائمة عليهم. لذلك قد تكون المواهب والإمكانات وبالاً على صاحبها إن لم يحسن استقبالها، ولنا في قصة قارون أفضل العبر في ذلك كما قصها القرآن في سورة القصص.
ومما يعمل على استفحال هذا الأمر في نفس هذا الشخص ضعف إمكانات من حوله فلا يجد من يهزمه ولا من يناظره فالكلّ دونه في المستوي.
5- عدم شيوع النصيحة بين الناس، مما يعطي للخطأ صفة الصواب في بعض الأحيان وفي المقابل نجد المدح والثناء منتشراً بينهم بصورة ممجوجة ومتكلفة.
6- عدم الاهتمام بالبناء الداخلي للذات وضياع سنوات العمر في العقود الثلاثة الأولى دون استغلالها في استكمال جوانب النقص التي لا يخلو منها إنسان، مما يجعل مظاهر الضعف النفسي تتمكن من الشخصية.
7- عدم محاسبة النفس بصورة مستمرة والرضى بما يؤدى من عبادات وطاعات دون النظر إلى محاولات النفس للاستيلاء على هذه الأعمال، وإذا ما تمكن أحدنا في يوم من الأيّام من محاسبة نفسه حاسبها على عبادات الجوارح ولم يحاسبها على عبادات القلب.
8- التقدم للأمام والقفز فوق الصفوف والتصدر للتوجيه دون إعداد وتكوين، فيتعرض هذا المتصدر لشمس الشهرة قبل الآوان فيفوته الكثير كما قال الشافعي رحمه الله: "إذا تصدر الحدث فاته علم كثير" مما يؤدي إلى الفتور في طلب العلم وتكوين الذات وترويض النفس وإحياء القلب.
فالبعض عندما تُسلط عليه الأضواء دون أن يكون معداً لذلك يصبح حاله كحال من يقترب من السراج فكلما اقترب رأى نفسه كبيراً وحقيقة الأمر أنّ حجمه لم يتغير وإنما ظله هو الذي كبر.
ولقد خدع هذا الظل الكثير فرأوا أنفسهم أكبر بكثير مما هم عليه، فنظروا إلى غيرهم على أنهم دونهم فأصبح شغلهم الشاغل فعل ما يؤكد تلك الحقيقة، والابتعاد عما يظهرهم بمظهر الجاهل أو المحتاج إلى المعرفة، فترى أحدهم يظن في نفسه أنّه من أهل العلم، ويضع نفسه في مصاف العلماء، مع أنّه لم يُرهق نفسه في الاطلاع أو الحفظ أو المدارسة، ولم يسلك في يوم من الأيام سبيل طالب العلم، فلقد زُج به إلى الأضواء وإلى الشمس دون إعداد، فإذا ما سئل عن أمر من الأمور تراه يجيب دون دراية لينفي عن نفسه صفة الجهل، وإن رد عليه شيء من قوله غضب، وإن حاج أو ناظر أنف أن يُرد عليه، وإن وُعظَ استنكف من قبول النصح، فهو لا يرى نفسه إلّا على صفحة مرآة مقعرة، ويتخيل الآخرين أضأل مما هم عليه في الحقيقة.
الهامش:
[1]- متفق عليه.
[2]- الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن حسن حبنكة – بتصرف.
المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1221 لسنة 1996م