بعدما تبين أنه لا بد من إمام ومعالمه بعد النبي الصادع بالدعوة، وأنه يجب أن يكون أفضل الخلق وأكملهم، وأشدهم معرفة بالرسالة والدعوة، وأن يكون معصوما من الخطأ والسهو والنسيان، مؤيدا في كل ذلك بالنصوص الدالة على مقامه، أو مظهرا لمعجزة تؤيد دعواه الإمامة، كما حصل مع وصي سليمان (عليه السلام)، حين قال سليمان: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾[1]، حين استطاع أن ينقل عرش ملكة سبأ بأقل من لمح البصر، ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾[2].
فالسؤال الذي يطرح نفسه في المقام عن الإمام بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهذه الآية المباركة إلى قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[3]، دل ذلك على إمامة من نزلت الآية الشريفة بحقه بطريق أولى، فإن وصي سليمان (عليه السلام) كان عنده علم من الكتاب، أي بعضا منه، وأما الثاني فعنده علم الكتاب كله لا بعضه.
أما من هو المراد بالآية الشريفة، والذي يجب أن يستجمع صفات الكمال، فيحتاج الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد منهم، فأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم على أنه علي (عليه السلام) وبينوا مقدار ما أظهره النبي (صلى الله عليه وآله) من فضائله وكمالاته، وأثبتته سيرته الشريفة مع الأحداث، من سمو مقام، وعلو درجة لا يتمكن الآخرون من مجاراتها.
وأما علماء العامة فاختلفوا فيها على أقوال فمنهم من قال أن المراد عبد الله بن سلام، وأجاب عن هذه الدعوى سعيد بن جبير حين سئل إن كان المراد عبد الله بن سلام، فقال: "وكيف وهذه السورة مكية"[4]. وأسلم ابن سلام بالمدينة ، فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام[5].
وروي عن ابن عبد الله بن عطاء أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن المراد بها فأجاب أنه علي بن أبي طالب، وروي عن محمد بن الحنفية مثله[6].
وذهب أبو بكر ابن العربي إلى أن المراد بها جميع المؤمنين، مناقشا قول من قال بأنه علي (عليه السلام) بنقاشات باردة تكشف عن حقد قديم، وكره عظيم لعلي (عليه السلام) وأتباعه، حيث قال بأن الذين قالوا بأن الذي عنده علم الكتاب هو علي (عليه السلام) استندوا إلى وجهين:
الأول: لأنه أعلم المؤمنين.
والثاني: لقول النبي (صلى الله عليه وآله) أنا مدينة العلم وعلي بابها.
وناقش الأمر الأول بقوله "وليس كذلك بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه". وناقش الأمر الثاني بقوله "وهو حديث باطل" ثم جعل جميع أصحابه أبواب العلم[7].
ولا نرى حاجة للتعليق على هذه المناقشة، فهي نفسها تفضح قائلها.
ومهما يكن من أمر فالأدلة الدالة على أن الإمام الحق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هو علي (عليه السلام) كثيرة جدا، تتوزع على الأدلة العقلية والنقلية، كتابا وسنة.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل، العقيدة في القرآن
[1] سورة النمل، آية: 38
[2] سورة النمل، آية: 40
[3] سورة الرعد، آية: 43
[4] الدر المنثور، السيوطي، ج4، ص129
[5] تفسير القرطبي، ج9، ص220
[6] نفس المصدر السابق، ص220
[7] راجع نفس المصدر السابق