د. محمد نجيب أحمد
◄إمتاز القرآن الكريم في تربيته للمجتمع بأنّه منهج عملي وواقعي، يواجه الحياة بما يصلحها ويقومها، ويمدها بعناصر القوة والبقاء، فعاش هذا المنهج في مكة يربي صحابة رسول الله (ص) على الإيمان والثبات والصبر والأخلاق الطاهرة... إلخ، ولم تكن للثلة المؤمنة من دولة وحماية تحميهم، فأنتقلوا بالهجرة إلى يثرب، حتى تكون من هذا المجتمع دولة سارت على درب النور الإلهي، وكان لابدّ لهذا المجتمع الجديد من مبادئ ثابتة، يسير على خطاها أفراد المجتمع في حياتهم، ومن ضمن هذه المبادئ والدعائم العدل، الذي كان له الدور الهام في بناء هذا المجتمع الفتي.
إنّ المتتبع لآيات الله في كتابه، يرى أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل في آيات كثيرة، وذلك لما فيه من أهمية عظمى، فإنّ كلَّ علاقة في الإسلام لابدّ وأن تقوم على العدالة، واعتبار الناس جميعاً سواسية، وإن كان هنالك ثمة تفاضل بين الناس في العمل والجزاء.
وإن كان هنالك لكلِّ دين سمة يتسم بها، فسمة الإسلام هي العدالة، والبعد عن الظلم. (فالعدالة تحدد كلّ علاقة بين الناس في السلم والحرب، في كلِّ زمان ومكان، ففي السلم يكون حسن الجوار، وفي الحرب يكون الباعث لها ليس للعدوان وإجحاف حقوق الغير، وإنما تكون قائمة أوّلاً وأخيراً على العدالة).
والعدالة في الإسلام وشريعته فريضة واجبة، فرضها الله على الجميع دون استثناء، ففرضها على الرسول (ص) وأمره بها، قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ...) (الشورى/ 15)، قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، وأمرت لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والحكومات، وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية.
وإقتضت الضرورة في إقامة العدل وتطبيقه وعدم التواني فيه، كما تقتضي المصلحة والحكمة إشاعته والوقوف بجانبه والتمسك به، إذ العدل ظل الله في أرضه ورحمته في خلقه، والحارس للعقيدة والمال والنفس والعرض، والعدل خصب البلاد وأمن العباد، به قامت السماوات والأرض. فإلى العدل يأوي الضعفاء، ويلوذ إليه الفقراء، وفي العدل إنصاف للمظلوم، ورزق للمحروم، به يجتمع الشمل، وتتحد الكلمة وتدوم الرابطة، وتقوي الأواصر بين الناس وبفضل العدل قويت الأمم ودامت دولة العدل إلى قيام الساعة، ودولة الظلم ساعة، وقتها قصير وإن يبدو للبعض أنها تطول، ولكن مآلها إلى الزوال، وبالعدل أخذت الأمم أسباب السعة في الرزق، وعزت بعد ذل وهوان، وبه استيقظت بعد الغفلة، فالعدل سيف الحقِّ المسلط على الباطل وأعوانه، وعلى الشيطان وحزبه، وعلى الشرك وجنده، فبالعدل يُظهر الله دينه ويقوي حجته، وينصر أولياءه والصالحين من عباده، فالعدل ملاك الأمر كلّه، وجماع الخير ورأس الفضائل.
والعدل تتوقف عليه سعادة وطمأنينة المجتمع، فمن أتصف بالعدل كان محبوباً عند الناس آمناً على نفسه وماله وعرضه، فإذا ما أمن الناس وسعد المجتمع بالعدل، عمل الفرد فيه بحرية ونشاط فيزداد الإنتاج ويستقر الأفراد.
ولقد نعم المسلمون بهذا العدل، عندما وضعت فلسفته في التطبيق على عهد رسول الله (ص).
والعدل في المجتمع الإسلامي يبني جسور الثقة بين الحاكم والمحكوم فينعم الحاكم بالإطمئنان من قبل المحكوم، وتستقيم شؤون المجتمع بإستقامة الأفراد، ويأخذ الجميع حقوقهم، فلا يُهضم حقّ إنسان على حساب الآخر، فيتساوى الجميع ويتناصف الكل، فترجع الحقوق لأصحابها، ويُقضي على الظلم الذي هو سبب لهلاك الأُمم والمجتمعات. فالمجتمع إذا ما ساد فيه العدل تنتزع رغبات الميل والهوى من النفوس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 135). وسبب نزول الآية الكريمة أنها نزلت في النبي (ص)، إختصم إليه غني وفقير وكان ضلعه مع الفقير، رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله تعالى أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير. فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ).
جاء في الظلال أنّ هذه الآية درساً للجماعة المؤمنة بندائهم إلى النهوض في إقامة العدل بين الناس، على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة، والعدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة خالصاً من كلِّ عاطفة، أو هوى أو مصلحة، سواء كانت على مستوى الفرد أو المجتمع أو الدولة أو الأُمّة، متجردة من كلِّ العواطف والاعتبارات الأخرى، غير تقوى الله ومرضاته.
وإذا ما انعدم العدل في المجتمع، تسود الفوضى ويتفشى الظلم والعدوان، وتضطرب الأُمّة وتهلك، قال الماوردي: "وأما القاعدة الثالثة. أي من القواعد التي تصلح بها الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة، فهي عدل شامل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر النسل ويأمن به السلطان، ونخلص من ذلك في أهمية العدل وأثره على المجتمع، أنّ العدل يؤدي إلى الطمأنينة بين أفراد المجتمع، وسلامة الأُمّة، ويرضى الفرد بما يحكمه الحكام، والعدل في المجتمع ينتصف به من الظالمين. ويعني هذا أن يظل المجتمع متماسكاً متحاباً قوياً متضامناً، فإذا أمن الإنسان على نفسه وماله وحقه واطمأن إلى عدالة الحكام، عمل في حرية ونشاط، فيزداد الإنتاج ويدر هذا بالخير على المجتمع، وبالعدل يمتنع الفساد، لأنّ الفاسد إن علم أنّه سيلقى الجزاء، ولم يجد إهمالاً أو محاباة في المعاقبة، امتنع عن إفساده، ولو عكس الأمر لسادت الفوضى في انتشار الظلم، وعم القلق ربوع المجتمع، ولقل الإنتاج، لأنّ ظلم الأداة الحاكمة السياسية يؤدي بالتأكيد إلى قلة واضطراب الإنتاج. ►
المصدر: كتاب المجتمع الإسلامي (دعائمه وآداب في ضوء القرآن الكريم)