وفقاً لنظام أخلاقيّ قديم منقول عن فلاسفة اليونان فإنّ "الاعتدال" هو أساس القيم وإنّ جميع الصفات تُقاس بهذا الميزان. وعلى أساس هذا المعيار، فإنّه ينبغي للمرء أن يتّخذ حالة معتدلة، فلا يكون قلبه شديد الرقّة إلى درجة الانفجار بالبكاء عند مشاهدة أيّ مشهد، ولا قاسي القلب إلى درجة عدم تأثّره بأيّ حادثة. فميزان القيمة في هذا النظام الأخلاقيّ هو الاعتدال، وكلّ ما ينحرف إلى هذا الطرف أو ذاك فهو يُعدّ إفراطاً أو تفريطاً.
أمّا مناط القيمة وفقاً للأخلاق الإلهيّة أو الإسلاميّة، فهو أرفع من ذلك بكثير. ذلك أنّ الصفات القيّمة حسب الأخلاق الإلهيّة هي تلك التي تُقرّب الإنسان إلى الله تعالى. أمّا في الأخلاق الفلسفيّة المذكورة فإنّ العلاقة المذكورة مقطوعة وإنّ الارتباط مع الله غير مراعىً فيها.
وبناءً عليه فإنّ رقّة القلب لا تكون ذات قيمة في الأخلاق الإسلاميّة إلاّ إذا ظهر أثرها فيما يتعلّق بالله عزّ وجلّ وفي القرب منه. فإنّ ما يكون مفيداً للإنسان المؤمن حتماً هو أن لا يكون غير مبال إذا ذكر عظمة الباري تعالى، أو عفوه وتجاوزه، أو ذكر عذابه. يقول القرآن الكريم في ذكر إحدى صفاته: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾[1]، فإنّ من جملة صفات كلام الله هي أنّه إذا سمعه المؤمنون اقشعرّت جلودهم وشعروا برعدة في أوصالهم.
هذه الحالة العاطفيّة هي حالة انفعاليّة يظهر أثرها على الجلد. كما أنّه يقول تعالى في صفات المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[2]، فمن خصائص المؤمن هي أنّ قلبه يرتجف إذا ذُكر الله عنده، وهي علامة الإيمان. فلا بدّ لقلب المؤمن أن يشعر بالحقارة في مقابل عظمة الباري عزّ وجلّ. بل يتحتّم على المؤمن أن تنتابه حالة الخجل وأن تسيل دموعه عندما يتذكّر أنعم الله عليه لا سيّما عندما يغيثه الله وينصره مع كلّ ما هو عليه من تقصير وغفلة.
فقد جاء في الدعاء الوارد بعد زيارة الإمام الرضا عليه السلام ما نصّه: "ربِّ إنّي أستغفرك استغفار حياء"[3]، فأوّل ما يستغفر العبد ربّه هو الاستغفار الناشئ عن الحياء، فكأنّه يريد أن يقول: إلهي! إنّني لأستحي أن أواجهك أساساً. فبمجرّد أن ينوي العبد - مع كلّ أعماله المخزية وما يتّصف به من عدم الأهليّة - الجلوس بين يدي ربّه الرؤوف الرحيم الرحمان تنحدر دموعه على وجنتيه قبل أن يذكر جهنّم والعذاب.
وفي هذه الحالة سيدعوه الله عزّ وجلّ لضيافته ويضيّفه. وكذا عندما يُنذر الله عبده من عذاب الآخرة فعلى الأخير أن يحمل إنذاره على محمل الجدّ. فعدم الاكتراث لهذه الإنذارات هو عدم اكتراث لله جلّ وعلا. فإن تلا المرء هذه الآيات من دون أن توقع في قلبه أيّ تأثير فليعلم أنّه مصاب بقسوة القلب. فالمؤمن يتأثّر عندما يلتفت إلى هذه الآيات وتجري دموعه من عينيه: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدً﴾[4] و﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعً﴾[5]، فعندما تُتلى آيات القرآن الكريم على المؤمنين الصالحين يهوون بوجوههم على الأرض وتلتصق جباههم بها من أثر الخضوع والخشوع.
على كلّ حال فقد وهب الله الإنسان قلباً كي تظهر هذه الآثار منه في الوقت المناسب. أمّا إذا اقتصر التفاتنا أثناء قراءة القرآن الكريم، أو حتّى تلاوة آيات العذاب، إلى الصوت والأجهزة الصوتيّة من دون أن ننتبه بتاتاً إلى الهدف من نزول تلك الآيات أو إلى معانيها فسنُبتلى بقسوة القلب.
إذن فرقّة القلب المطلوبة للإنسان المؤمن هي ما يحصل في مثل هذه الحالات، وبشكل عامّ فإنّ الاتّصاف برقّة القلب من دون الوقوع في الإفراط والتفريط هي حالة حسنة، لكنّها لا تُعدّ قيمة إسلاميّة إلاّ إذا ارتبطت بالله جلّ وعلا"[6].
المهتدون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الزمر، الآية 23.
[2] سورة الأنفال، الآية 2.
[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص56.
[4] سورة الإسراء، الآية 107.
[5] سورة الإسراء، الآية 109.
[6] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب ، 2011 م