يعتبر السلام غايةً وهدفاً فوق كلّ الاعتبارات، وهو ما نادت به جميع الرسالات السماوية، والتقت حوله كقيمة تبرز أصالة الإنسان، وتسمح لإمكاناته بالإبداع والعطاء، بعيداً عن لغة الحسابات الضيِّقة.
جاء الدِّين ليبني علاقةً سليمةً بين الإنسان وربّه، وبينه وبين نفسه، ومع الناس ومع الحياة. وكلّ هذه العناوين لا تتمّ إلّا بالحبّ، فلا يمكن للإنسان أن يبنيَ علاقةً سليمةً بالله على أساس الخوف والرعب، فبدون استشعار الحبّ لله، لن يُعبَد الله حقّ عبادته، ولن يُطاع حقّ طاعته، ولن يخشى حقّ خشيته، ولن يكون مثالاً وغاية لعباده يتخلّقون بأخلاقه. والأمر نفسه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلولا الحبّ الذي غمر كيانه حتى انعكس رفقاً وحناناً على الناس، لما بلغ رسول الله هذا الموقع. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159). والأمر نفسه يتعلّق بالنفس، فلأنّنا نحبّ أنفُسنا حبّ الإشفاق لا حبّ الأنانية، نسهر على راحتها وصحّتها وأمانها، ونعمل على وقايتها من كلّ ما يُسيء إليها. أمّا العلاقة بالناس، فهي لا تتحقّق بالعنف والقسوة والغلظة، وحده الحبّ الذي يبني مجتمعاً متوازناً متراصّاً وقويّاً. وحده المجتمع المتحابّ يتوحَّد ويقف سدّاً منيعاً في مواجهة التحدّيات، لأنّ كلَّ فرد فيه يشعر بقلبه بأنّ عليه أن يقف إلى جانب الآخرين؛ حبّ يوحّدنا دوماً، لأنّه نابعٌ من الروح والإيمان. ومن هنا تأتي كلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَثلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفِهم مَثلُ الجسدِ، إذا اشتكى شيئاً تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحمى». كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الساعي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة».
إنّ الخطّ البياني للإسلام هو ما يعبّر عنه بالرِّفق، وهو ممارسة الأسلوب السلمي في معالجة كلِّ القضايا، حتى إنّ القرآن الكريم يؤكِّد مسألة معالجة الخلافات بين الناس، بالأسلوب الذي يتمكّن به الإنسان من أن يحوِّل عدوَّه إلى صديق: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصِّلت/ 34)، ما يعني أنّ الإسلام يدعو إلى أن نكون أصدقاء العالم، مع التزامنا بمبادئنا والتزام الآخر بمبادئه. وقد أكَّد القرآن الكريم مبدأ الحوار مع أهل الكتاب، والانطلاق في التحاور معهم من الكلمة السواء، ليكون الالتقاء على ما يجمعهم والمسلمين من أفكار مشتركة، والحوار في ما يختلفون فيه معهم بالوسائل الحضارية.
عندما ينتشر الفساد الاجتماعي والجريمة، ويتعاون الناس على مكافحته، سيتمكّن هؤلاء الناس من تطهير المجتمع من ظاهرة الفساد والانحراف. لذلك أمر القرآن بالعمل الجماعي لإصلاح المجتمع بقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران/ 104). وعندما يُداهم المجتمع خطر، كالحوادث الطبيعية، مثل الزلازل والفيضانات والجفاف... إلخ، أو يهاجم البلاد عدو، أو تحدّيات ومخاطر، ويتعاون الناس على صدّها، بما يُقدِّمون من مال وخبرة ومعلومات، وجهد ومشاركة في الدفاع عن العقيدة والأوطان ومصالح المجتمع، فسيتمكّنون من دحر العدو ومواجهة التحدّيات وتحقيق الأمن والسلام.. أمّا المجتمع الذي تنتشر فيه الأنانية والتخاذل ولا يتعاون أفراده، سيكون مجتمعاً مُتخلِّفاً مُنحلاً خاضعاً للأزمات والتحدّيات.
وفي النهاية، إنّها مسؤولية كبيرة أن تزرع ثقافة السلام في المجتمعات المتعطّشة لها، وأهمّ من ذلك، صناعة جيلٍ واعٍ لأهميّة السلام وقيمته؛ جيل مسؤول ليكون هناك جيل يؤمن بأنّ التربية التي تربّي الجيل الصاعد على أهميّة السلام، لابدّ من أن تترك الأثر، ولو بعد حين، في إعادة رسم المشهد العام، وليس فقط المؤتمرات والندوات التي هي في كثير منها مجرّد بروتوكولات، سرعان ما تنتهي في لحظتها.