قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
التوبة باب الله الآمن، الذي فتحه الله إلى ساحة عفوه "إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سمّيته التوبة"2، والذي تركه الله تعالى مفتوحاً بالليل والنهار، ملجأً ومأوىً لعباده الهاربين من واقعهم المنحرف ليدخلوه متى أرادوا، بمجرّد أن يتولَّد عندهم رغبة مخلصة في التطهُّر من دنس الخطايا والذنوب والمعاصي.
والتوبة دعوة ربّانية مفتوحة وموجّهة لكل المذنبين في الأرض، والمذنبون جميعاً مدعوون لقبول هذه الضيافة الإلهية، من أجل أن يضعوا حدّاً لفسادهم وغيِّهم وتساقطهم وراء الملذّات الدنيوية الرخيصة، وأن لا ييأسوا من رحمة الله. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾3.
ما هي التوبة النَّصوح:
تتضمّن الآية الكريمة - المذكورة في تصدير الموعظة - حثّ صريح على التوبة النصوح، والتوبة النصوح أعلى درجات التوبة أو التائبين، بعد الدرجات الأولى للتوبة من ترك الذنوب مدّة أو ترك الكبائر. ولهذا كان من الضروري توضيح معناها: فالنصح يأتي لغة بمعنى: "الإخلاص، نحو نصحت له الود أي أخلصته"4، فالتوبة النصوح هي التي تصرف صاحبها عن المعصية، وتخلِّصه من الرجوع إلى الذنب وذلك بتحرّي جميع الطرق التربوية التي تصدّه عن المعصية.
ومعناها حسب ما ورد في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام هي التوبة التي لا يعود فيها التائب إلى الذنب الذي تاب عنه، على ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب يوماً بالمسلمين فقال: "أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا..."5.
وعن أبي بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحً﴾ قال: هو الذنب (أي التوبة من الذنوب) الذي لا يعود فيه أبداً، قلت وأيّنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد إن الله يحبُّ من عباده المفتتن التوّاب"6.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: "إِذَا تَابَ الْعَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ الله فَسَتَرَ عَلَيْهِ فَقُلْتُ وَكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ قَالَ يُنْسِي مَلَكَيْهِ مَا كَانَا يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ وَيُوحِي الله إِلَى جَوَارِحِهِ وَإِلَى بِقَاعِ الْأَرْضِ أَنِ اكْتُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ فَيَلْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ"7.
فحقيقة التوبة النصوح أرقى بدرجات من التوبة التي يعود فيها الإنسان إلى الذنوب، وبالتالي فإنّ أثرها يختلف عن آثار التوبة العادية، كما أَنَّ شروطها كذلك.
وهذا الأمر بقدر ما يستبطن من الصعوبات، فإنّه في الوقت نفسه له آثارٌ عظيمة في حياة الإنسان، خصوصاً الشباب.
فضل التوبة النصوح:
أولاً: إِنَّ أعظم فضل للتوبة أنّها سبب لمحبة الّربِّ للعبد التائب. وفرقٌ بين أنْ نقول: (إنَّها سببٌ لمحبة الرب للعبد) و (إِنَّها سبب لمحبة العبد للرب)، فمن أنا ليحبّني الملك الجبار؟!
روى الكليني بإسناده إِلَى حَمَّادِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: "مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"8.
ماذا لو أحبّك الله؟!
فلنستمع إِلَى صوت الحقّ والحقيقة من خلال ما روي: "إذا أحبَّ اللهُ مؤمناً قال لجبرائيل: إنِّي أحببتُ فلاناً فأحبّه في حبّه ثمّ ينادي في السماء إِنَّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحبّوه، ثمّ يوضع له قبول في أهل الأرض"9.
بعض النّاس في هذه الحياة الدُّنيا يسعد لو كان محبوباً من قِبَلِ زعيمٍ أو مسؤول، فماذا ترى المؤمن يعمل لو كان محبوباً من قِبَل ربّ الأرض والسماء، فيا لها من سعادةٍ ما بعدها سعادة...
ثانياً: أنّها سببٌ لفرح الربّ بالعبد، وإِنَّه فرحٌ لا يلازم التشبيه ولا التجسيم ولا التمثيل...فعن عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَالله أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا"10.
ما أروع هذا التشبيه! تصوّروا لو أَنَّ رجلاً يركب دابةً، قد أودعها من صنوف الطعام والشراب والمؤونة التي يحتاج إليها في طريقه الطويل الموحش، وعندما نزل ليستريح في تلك الأرض القاحلة فقد الدابة وما عليها من زادٍ ومؤونة. وبعد بحث طويل قد أضناه واتبعه، استسلم لقدره ظمآنَ جائعاً، وعندما وصل للرمق الأخير، فإذا به يرى من بعيد تلك الدابة تعود إليه, لتعطيه الحياة ثانيةً. لا شكّ أَنَّ هذا التشبيه بأمرٍ حسّيٍّ يوصل إِلَى أذهاننا ما قصده الإِمام عليه السلام من بيان الفرح والسرور الرباني عند توبة عبده وإيابه إليه.
ثالثاً: أنّها سبب لنور القلب ومحو أثر الذنب، يا له من فضل!! التوبة سبب لنور القلب ومحو أثر الذنب، فلينتبه كلّ مؤمن وكل مؤمنة، فإنّه لا يستغنى عن هذا الموضوع عالم أو حاكم رجل أو امرأة شاب أو شابة، فكلّنا بحاجةٍ إلى التوبة وخصوصاً التوبة النصوح.
إنّ صدق التائب مع الله في توبته يطهّره من كلّ ذنبٍ مهما كَبُر أو صَغُر، فقد روى الديلمي في إرشاد القلوب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،أنّه قال: "إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ كَانَ نُقْطَةً سَوْدَاءَ عَلَى قَلْبِهِ فَإِنْ هُوَ تَابَ وَأَقْلَعَ وَاسْتَغْفَرَ صَفَا قَلْبُهُ مِنْهَا وَإِنْ هُوَ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ كَانَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ وَالسَّوَادُ عَلَى السَّوَادِ حَتَّى يَغْمُرَ الْقَلْبَ فَيَمُوتُ بِكَثْرَةِ غِطَاءِ الذُّنُوبِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾"11.
فمثل الذُّنوب كمثل سحابةٍ كثيفةٍ مظلمةٍ، تحجب بمرورها ضوء القمر عن الأرض، فإذا انقشعت عاد النّور ساطعاً. فالذنوب كالسحابة، والاستغفار يمثّل حالة انقشاعها.
التوبة واجبة على الجميع:
إذا أقدم الإنسان على المعصية، وكان بالغاً عاقلاً عالماً بحرمة ما ارتكبه غير مضطّر إليها ولا مجبر عليها، يعتبر حينئذٍ عاصياً وتصبح التوبة واجبة عليه. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفيس، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله تعالى، وتوبة العام من الذنوب، ولكل واحد منهم معرفة وعلم في أصل توبته ومنتهى أمره وذلك يطول شرحه ها هنا.."12.
أدلة وجوب التوبة:
وهو المستفاد من النصوص الشرعية، فقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب التوبة على المذنبين، فقد تظاهرت وتضافرت أدلّة القرآن الكريم والسنة الشريفة على ضرورة التوبة لكلّ مكلّف لم يعصمه الله من الخطأ, لأنَّ المؤمن لا يخلو من معصية ظاهرة أو باطنة. ومن أجل ذلك وجب عليه أن يجدّد التوبة والأوبة إلى الله بعدد أنفاس حياته حتى يلقى الله عز وجل وهو على توبة ، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾13.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾14.
فيظهر من هاتين الآيتين توجيه الخطاب إلى المذنبين من المؤمنين. أما المجرمون ونحوهم فإن الله سبحانه كثيراً ما كان يحذرهم في آياته عذاباً أليماً وينذرهم عاقبة أعمالهم السيئة، ثم يدعوهم إلى التوبة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾15.
ومما يدلّ على الوجوب أيضاً قوله جلّ وعلا: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾16.
فالأمر واضح الظهور في الوجوب، وقد ربط الله تعالى الفلاح بالتوبة وفي آيةٍ أخرى يقول جل وعلا: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾17.
وفي مجمع البيان أَنَّه قد صحّ الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان، قال: "كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إنّي لأخشى أن يُدخلني لساني النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"18. فانظر إِلَى نبيّنا وحبيبنا وهو المعصوم يستغفر الله في اليوم مائة مرّة.
إن كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر كلّ هذه المرات وهو من هو، فحريٌّ بالمسلم الَّذِي لا ينفك عن معصيةٍ صغرت أم كبرت، أنْ يحتاج إلى التوبة بعدد أنفاس حياته في هذه الدنيا.
يقول الشاعر:
دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ فَاتَ فِي زَمَنِ الصِّبا**وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِها يَا مُذْنِبُ
لَمْ يَنْسَهَا الملكَانِ حِينَ نَسِيتَها **بَلْ أَثْبَتاها وَأَنْتَ لَاهٍ تَلْعَبُ
وَالرُّوحُ مِنْكَ وَدِيعَةٌ أُودِعْتَها**سَتَرُدُّهَا بِالرّغْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ
وَغُرُورُ دُنْيَاكَ التي تَسْعَى لَهَا ** دَارٌ حَقِيقَتُها مَتَاعٌ يَذْهَبُ
الْلَّيْلُ فَاعْلَمْ والنَّهَارُ كِلَاهُما **أَنْفَاسُنَا فِيهِما تُعَدُّ وَتُحْسَبُ
قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾19.
وفي الخبر: "إِنَّ الله تَعَالَى أَنْزَلَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْمُنْزَلَةِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ وَأَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي فَمَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ أَتَانِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئاً"20.
فيا أيها المؤمن! هيّا إلى هذا الفضل العظيم، فوالله لو عرفت فضل التوبة ما تركتها طرفة عين، فكيف بالتوبة النصوح؟!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ وَمَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ وَمَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ وَمَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ"21.
فتوى الفقهاء:
قال لإمام الخميني قدس سره: "من الواجبات التوبة من الذنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه أمره بها، وكذا لو شك في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي، فلو شك في كونه مقصِّراً أو علم بعدمه لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة"22.
شرائط التوبة النَّصوح:
للتوبة النَّصوح مجموعة من الشرائط لا تتحقّق التوبة دونها:
الشرط الأوّل: الإخلاص، فلا ينبغي للتائب أنْ يتوب لمجرّد الخوف من العذاب والعقوبة، أو مذمّة الناس وخوف الفضيحة، وإنّما يتوب لله تعالى، قال جلّ عزّه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾23، وقال أيضاً ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾24.
الشرط الثاني: الإقلاع عن المعاصي والذنوب، فإنّ حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب ـ لقبحه ـ إلى الطاعة، فلا يمكن للتوبة أنْ تحصل مع كون المذنب مواظباً على ارتكاب المعاصي واقتراف السيّئات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "إِنَّ النَّدَمَ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إِلَى تَرْكِه"25.
الشرط الثالث: المداومة على العمل الصالح، فإنّ مَنْ أقلع عن الذنوب والمعاصي من الطبيعي أن يهوى العمل الصالح ويميل إليه، ويداوم عليه. ولنعتبر بالمثال التالي: إنَّ مَنْ يجمع القمح لوقت الحاجة، لو وضعه في مستودعٍ ملوّثٍ بالحشرات والرطوبة المفسدة، فإنّه إذا جاء وقت الحاجة للاستفادة من القمح المجموع سوف يجده فاسداً, لأنّه لمن ينظّف المخزن. وهكذا الحال بالنسبة لأعمال الخير والفضيلة فإنّها لا تستقرّ في أنفسنا إِلَّا بعد تطهيرها وتنظيفها من رين الذُّنوب السابقة والمواظبة على ملئها بالأعمال الصالحة.
الشرط الرابع: ردّ المظالم: فإن كان الذنب متعلّقاً بحقّ عبد من عباد الله فلا بدّ من التحلُّل منه بالكيفية الممكنة.
الشرط الخامس: الإكثار من الاستغفار, لما فيه من الخير الكثير والبركة العميمة قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾26، فجعلها الله عِدل الوجود المبارك لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فكما أَنَّ لوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحياة الدُّنيا من الخير العميم ورفع العذاب، فإنّ للاستغفار كذلك من الفضل. وكلمة ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾ تدلُّ على المداومة والاستمرار في العمل لا فعله دفعة واحدة والانتهاء.
الشرط السادس: عدم اليأس من قبول التوبة ورجاء الغفران دائماً، الأمر الذي يحفّز المذنب على مداومة الاستغفار، ورجاء الإجابة.
كيفية التوبة النُّصوح:
روي أن علياً عليه السلام سمع رجلاً يقول: "أستغفر الله"، فقال عليه السلام له:
"ثكلتك أمك أو تدري ما معنى الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ست معان:
- الندم على ما مضى.
- العزم على ترك العود إليه أبداً.
- أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
- أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها.
- أن تعمد إلى اللحم الذي نبت عليه السحت والمعاصي فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
- أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
- عند ذلك تقول: أستغفر الله"27.
دعوة رسول الله المفتوحة للتوبة:
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال إنّ السنة لكثير، من تاب قبل أن يموت بشهر تاب الله عليه، ثم قال وإنّ الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال وجمعة كثير، من تاب قبل أن يموت بيوم تاب الله عليه، ثم قال واليوم كثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال من تاب وقد بلغت نفسه هذه وأومأ بيده إلى حلقه تاب الله عليه"28.
* كتاب محاسن الكلم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة التحريم، الآية 8.
2- الإمام زين العابدين عليه السلام ، الصحيفة السجادية، مناجاة التائبين.
3- سورة الزمر، الآية 53.
4- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 808، مادة نصح تحقيق صفوان عدنان داوودي، الناشر طليعة النور، مطبعة سليمان زادة، ط 2، 1427ه.
5- الديلمي، إرشاد القلوب، ج 1، ص 45.
6- الشيخ الكليني، أصول الكافي / ج 2، ص 432.
7- الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج 2، ص 436، باب: بناء التوبة، ح 12، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
8- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 352.
9- العاملي الناباطي، علي بن يونس، الصّراط المستقيم إِلَى مستحقي التقديم، ج 2، ص 67، تصحيح: مُحَمَّد باقر البهبودي، الطبعة الأُولى 1384، نشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 435.
11- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 11، ص 333.
12- مصباح الشريعة. منسوب للإمام الصادق عليه السلام ص 97.
13- سورة النور، الآية 31.
14- سورة التحريم، الآية 8.
15- سورة البروج، الآية 10.
16- سورة النور، الآية 31.
17- سورة الحجرات، الآية 11.
18- أمين الإسلام الطّبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 9، ص 171، الطبعة الأُولى 1415، نشر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
19- سورة الزمر، الآية 53.
20- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 298.
21- الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص 431، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسّسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
22- روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، ج 1، مسألة (5).
23- سورة البينة، الآية 5.
24- سورة الكهف، الآية 110.
25- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 427.
26- سورة الأنفال، الآية 33.
27- الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج 4، ص 98.
28- الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 440.