واتّجه موكب سبايا أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) إلى يثرب، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء، وقد غامت عيون بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالدموع، وهن ينجبن ويندبن قتلاهنّ، ويذكرن بمزيد من اللوعة ما جرى عليهن من الذلّ، وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على أمّ المؤمنين السيّدة اًمّ سلمة زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقد توفّيت بعد قتل الحسين (عليه السّلام) بشهر كمداً وحزناً عليه.
ولمَّا وصل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بالقرب من المدينة، نزل وضرب فسطاطه، وأنزل العلويات، وكان معه بشر بن حذلم، فقال له: "يا بِشْرُ، رَحِمَ اللهُ أَبَاكَ، لَقَدْ كَانَ شَاعِراً، فَهَلْ تَقْدِرُ عَلى شَيءٍ مِنْهُ؟". قال: بلى يا بن رسول الله.
فَادْخُلِ الْمَدِينَةِ وَانَعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ. وانطلق بشر إلى المدينة، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي، رفع صوته مشفوعاً بالبكاء، قائلاً:
يَـــــا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ بِهَا قُــتِلَ الْحُسَيْنُ فَأَدْمُعِي مِدْرَارُ
أَلْجِـــــسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلاَءَ مُضَرَّجٌ والـــرَّأْسُ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةِ يُدَارُ
وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي، وهي ما بين نائح وصائح، تنتظر من بشر المزيد من الأنباء، وأحاطوا به قائلين: ما النبأ؟
هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه. وعجّت الجماهير بالبكاء، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي برَّ بدينهم، وساد البكاء، وارتفعت أصوات النساء بالعويل، وأحطن بالعلويات، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين (عليه السلام) وهم غارقون بالبكاء، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وخطب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) خطبة مؤثرة، تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت من القتل والتنكيل والسبي والذلّ، ولم يكن باستطاعة الإمام أن يقوم خطيباً، فقد أحاطت به الأمراض والآلام، فاستدعي له بكرسيّ، فجلس عليه، ثم قال:
"الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، الرّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدينِ، بَارِئِ الْخَلائِقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي بعُدَ فَارتَفَعَ فِي السَّماوتِ العُلى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى، نَحْمَدُهُ عَلىَ عَظَائِمِ الأُمُورِ، وَفَجَائِع الدُّهُورِ، وَأَلَمِ الْفَوَاجعِ، وَمَضَاضَةِ اللَّوَاذِعِ، وَجَلِيلِ الرُّزْءِ، وَعَظِيمِ الْمَصَائِبِ الْفَاظِعةِ الْكَاظَّةِ الْفَادِحَةِ الْجَائِحَةِ.
أَيُّهَا الْقَوْمُ، إِنَّ اللهَ تَعَالى وَلَهُ الْحَمْدُ ابْتَلانَا بِمَصَائِبَ جَلِيلَةٍ، وَثُلْمَةٍ فِي الإسْلامِ عَظِيمَةٍ: قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السّلام) وَعِتْرَتُهُ، وَسُبِيَ نِسَاؤُهُ وَصِبْيَتُهُ، وَدَارُوا بِرَأْسِهِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ فَوقِ عَامِلِ السِّنَانِ، وَهذِهِ الرَّزِيَّةُ الَّتِي لاَ مِثْلُها رَزِيَّةُ.
أَيُّها النَّاسُ، فأَيُّ رِجالاتٍ مِنْكُمْ يُسَرُّون بَعْدَ قَتْلِهِ؟! أَمْ أَيُّ فُؤادٍ لاَ يَحْزُنُ مِنْ أَجْلِهِ، أَمْ أَيَّةُ عَيْنٍ مِنْكُمْ تَحْبَسُ دَمْعَهَا وَتَضِنُّ عَنْ انْهِمَالِهَا؟!
فَلَقَدْ بَكَتِ السَّبْعُ الشِّدَادُ لِقَتْلِهِ، وَبَكَتِ الْبِحَارُ بِأَمْوَاجِهَا، وَالسَّمواتُ بأرْكَانِهَا، وَالأرضُ بِأَرْجَائِها، وَالأشُجَارُ بِأَغْصَانِهَا، وَالْحِيتَانُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَالمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَأَهلُ السَّمواتِ أَجْمَعُونَ.
أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ قَلْبٍ لاَ يَنصَدِعُ لِقَتْلِهِ؟! أَمْ أَيُّ فُؤَادٍ لا َيَحنُّ إلَيْهِ؟! أَمْ أَيُّ سَمْعٍ يَسْمَعُ هَذِهِ الثُّلْمَةَ الَّتِي ثُلِمَتْ فِي الإِسْلاَمِ وَلاَ يصَمُّ؟!
أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْبَحْنَا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ مَذُورِينَ شَاسِعِينَ عَنِ الأَمْصَارِ، كَأَنَّنَا أَوْلاَدُ تُرْكٍ أَوْ كابُل، مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمْنَاهُ، وَ لاَ مَكْرُوهٍ ارْتَكَبْنَاهُ، وَلاَ ثُلْمَةٍ فِي الإِسلامِ ثَلَمْناهَا، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّليِنَ، إِنْ هَذا إِلا اخْتِلاقُ.
واللهِ، لَوْ أَنَّ النَّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) تَقَدَّمَ إِليْهِمْ فِي قِتَالنَا كَمَا تَقَدَّمَ إِليهِمْ فِي الْوصَايَةِ بِنَا، لَمَا زَادُوا عَلىَ مَا فَعَلُوا بِنَا، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ، مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَوْجَعَهَا وأفْجَعَهَا وَأَكَظَّهَا وَأَفْظَعَهَا وَأَفْدَحَهَا! فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ فِيمَا أَصابَنَا وَأَبْلَغَ بِنَا، إِنَّهُ عَزِيزُ ذُو انْتِقَامٍ".
وعرض الإمام في خطابه إلى المحن السّود التي عانتها الأسرة النبويّة، وما جرى عليها من القتل وسبي النساء، وغير ذلك ممّا تتصدّع من هوله الجبال، وانبرى إلى الإمام صعصعة، فألقى إليه معاذيره في عدم نصرته للحسين، فقبل الإمام عذره وترحّم على أبيه.
ثمّ زحف الإمام مع عمّاته وأخواته، وقد أحاطت به الجماهير، وعلت أصواتهم بالبكاء والعويل، فقصدوا الجامع النبويّ، ولمّا انتهوا إليه، أخذت العقيلة بعضادتي باب الجامع، وأخذت تخاطب جدّها الرسول وتعزّيه بمصاب ريحانته قائلة: "يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين".
وأقامت العلويّات المأتم على سيّد الشهداء، ولبسن السواد، وأخذن يندبنه بأقسى وأشجى ما تكون النّدبة.