في ركب الولاية العظيم ودولة العدل الإلهيّة… وإمامٌ مخلّصٌ ينتظر… نورُ الله وجهُه يَنتظر ويُنتظر… الكلّ يتلهّف لطلعته والكلّ أحبّه وشغف به. لكن أيّ حبّ أعددناه في قلوبنا له؟
مودّة العوامّ السطحية أو مودّة العاشقين الوالهين؟
إلى هنا يصل الكلام مع سماحة الشيخ علي رضا بناهيان في الحديث عن علاقة المنتظِر بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* المودّة السطحيّة لصاحب الزمان
المراد من المودّة السطحيّة هو المحبّة السطحيّة التي لا تستند إلى مبدأ، وتكون عرضة للزوال في كلّ لحظة. كما يمكننا استخدام تعبير المودّة السطحيّة في المواطن التي تستند إلى أساسٍ نظريّ باطل ومعرفة غير صحيحة، هما وليدا تلك النظرة السطحيّة نفسها.
في رواية لأمير المؤمنين عليه السلام، يذمّ فيها “المودّة السطحيّة”، فيقول: “مودّة العَوامِّ تَنْقَطِعُ کانْقِطاعِ السَّحابِ، وتَنْقَشِعُ کما يَنْقَشِعُ السَّرابُ“(1)، حيث يشير الكلام الشريف إلى أكبر أضرارها، وهو الانقطاع.
* منطلق لمعرفة الوليّ
ولكن لا ينبغي قطع النظرة الإيجابيّة عن مثل هذه المودّة بشكل كامل، وذلك فيما لو كانت المودّة السطحيّة مقتبسة من محبّة فطرية طبيعيّة، وإن كانت ابتدائيّة، حيث تبدأ محبّة الكثير من العوام ومعرفتهم لأولياء الله من هذه المودّة. ولا بدّ في آن واحد من الإشادة بهذه المودّة السطحيّة النقيّة والرائجة بين الكثير، بل وإشاعتها بين أهلها، ومن ثمَّ تعزيزها وتنميتها من خلال النظرة العلميّة.
وأحياناً نستهين عبر حكم خاطئ بهذه العلائق العامّة. والحال أنَّه يوجد بين العوام أناس يحملون معرفة ثاقبة وإيماناً راسخاً تغبطهم النخب عليها. ولا ينبغي -كما هو واضح- أن نعدّ كلّ من قلّ علمه ونقصت معلوماته من العوامّ، وأن نُدخل علائقهم في عداد العلائق السطحيّة المنقطعة.
* البكاء أثر المعرفة العجيب
إنَّ التعرّض لموضوع المخلّص بصورة علميّة وعقليّة، لا يتنافى مع التوجه العاطفي للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، بل إذا استنارت العقول، اتّقدت العواطف. والمعرفة تؤدي إلى إرساء وتعزيز هذا الارتباط العاطفي، وإلى إخراجه من المرحلة السطحيّة. فلا يتصوّر أحد أنّ معرفة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بالعقل والمنطق أسمى من البكاء. فإنّ من تكاملت معرفته بشأن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، سيبكي بدل الدموع دماً. ولا يتصوّر أحدنا أنّنا إن أصبحنا من العلماء، سندع البكاء، ونترك دعاء الندبة. كلّا، بل إنْ أصبحنا من العلماء، سيشتدّ اهتمامنا بقراءة دعاء الندبة، وسنعرف علامَ بكاؤنا. وهذا هو الأثر العجيب للمعرفة. ولذلك قال الله سبحانه: (إِنَّما يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماء) (فاطر: 28).
غير أنّ جزءاً من هذا الارتباط العاطفي الذي يتولّد في البدء، ناتجٌ عن الفطرة السليمة، وجزءاً منه ناجم عن المعرفة الكليّة والبدائيّة الّتي قد يكون بعضٌ منها سطحياً. والكلام في أنَّ هذه المعرفة الكليّة والبدائيّة لا بدّ من نموّها وتكاملها، ليدوم ذلك الارتباط العاطفي ويخرج من حدّه الأدنى.
* لا بدّ من محبّة أعلى للإمام
لا بدّ من القول إنَّ هذا المستــوى المتوســط للارتبـــاط العاطفي الموجود في المجتمع بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ليس كما ينبغي أن يكون. والوضع الموجود أقلّ بكثير من الحدّ المطلوب والمتوقّع.
فقد بدأت قراءة دعاء الندبة وازدهرت هذه المراسم، ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين دعاء الندبة الذي لا بدّ أن يُقرأ للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، والّذي يحتاج إلى محبّة شديدة جدّاً، أشير إليها في الدعاء نفسه بوضوح(2)، وبين الدعاء الذي نقرؤه.
وفي الوقت ذاته، فإنّ هذا التوجّه للإمام أيضاً -وإن كان بدائيّاً- هو توجّه له معناه وقيمته الخاصّة. ونحن نكنّ بالغ الاحترام لكلّ ما يتركه الاسم المقدّس للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من أثر وحلاوة في القلوب، ولكنّ اللّوم هو أن نرغب في إبقاء هذا التوجّه على هذا الحدّ التمهيدي والأدنى نفسه والاكتفاء بذلك. وهنا لا بدّ أن نترقّب أضرار النزعة السطحيّة.
فلو قام أحدٌ بإبقاء عواطفه الدينيّة في الحدّ التمهيدي، والحال أنَّ الظروف تقتضي تكاملها، فقد يؤدّي هذا الجمود إلى انحرافه؛ لأنَّه بعد مدّة من ظهور تلك العواطف الدينيّة الأولى، سيتلمّس بدائيّتها وسطحيّتها، وبالتالي سيسعى للابتعاد عن هذه السطحيّة. ولذا لا بدّ من الغور في أعماق هذه العواطف الدينيّة وإرساء هذا التوجّه البدائي الحاصل نحو الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. ويجب الحرص على أن لا توقعنا هذه المودّة السطحيّة في الهاوية، وترتحل عنّا في الوقت الذي نحتاج فيه إليها.
ومن نماذج العلائق السطحيّة الّتي يمكن الإشارة إليها هو الاهتمام بلقاء الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، من دون التوجه إلى مسألة الظهور وفلسفة الغيبة والانتظار. فالذين يحملون مثل هذه العلائق السطحيّة هم الّذين يتشوّقون للقاء الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن دون الاكتراث بالآثار والبركات الجمّة المترتّبة على الظهور. والسؤال هو كيف يمكن ادّعاء العشق وتمنّي اللقاء، من دون الاعتناء بمطالب الإمام وأهدافه؟
يقول سماحة آية الله الشيخ “بهجت” (البالغ مناه):
“هل يمكن أن يكون زعيمنا ومولانا وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف حزيناً ونحن مسرورون، ويكون باكياً لما ابتليَ به أولياؤه ونحن ضاحكون مبتهجون، وفي الوقت ذاته نعتبر أنفسنا من أتباعه؟!”(3)، “يريد أنصاراً يطلبون الإمام لا غير. فالمنتظر للفرج هو الّذي ينتظر الإمام لله وفي سبيل الله، لا لقضاء حوائجه الشخصيّة!”(4).
* في الدعاء ننادي
“مَتى تَرانا وَنَراكَ، وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ؟ تُرى أَتَرانا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤمُّ الْمَلَأ، وَقَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ عَدْلاً؟“(5).
أيّ أنّني أعشق لقاءك في حال كونك إماماً وحاكماً على العالم، لا أنّني أتمنّى أن ألقاك في زاوية. علماً بأنَّه لا بدّ من الاعتراف بأنَّ من حلّ في قلبه شوق اللّقاء بالإمام ولو بصورة فرديّة، ففي الأغلب سيشتاق إلى الظهور ونجاة العالم أيضاً. وهذان الأمران متلازمان، غير أنّ في مقام التبليغ للقاء الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بصورة فردية عثرات ومطبات لا بدّ من اتّقائها.
وكذلك الحال في دعاء الفرج:
“اللَّهُمَّ کُنْ لِوَليِّكَ الْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ، صَلَواتُك عَلَيهِ وَعَلي آبائِهِ، فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي کُلِّ سَاعَةٍ، وَلِيّاً وَحَافِظاً، وَقَاعِداً وَنَاصِراً، وَدَلِيلاً وَعَيْناً، حَتَّي تُسْکِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً، وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً”(6).
فنحن لا نطلبُ -أساساً- لقاء الإمام، بل ندعو لسلامته. ندعو أن يكون الإمام سالماً حتّى يتحقّق فرجه ويتمتّع بحكومته. وهذه هي غاية الخلوص النابع من العشق والمعرفة، بأن لا ينظر الإنسان إلى نفسه، ولا يفكّر إلّا في محبوبه.
وفي دعاء العهد أيضاً، الّذي تستحبّ قراءته كلّ صباح، والّذي كان يعتقد الإمام الخميني قدس سره أنّ قراءته تؤثّر في مصير الإنسان، قبل أن يطلب الإنسان اللّـقــاء منــاديــاً: “اَللّهُــمَّ أَرِني الطَّلْعَةَ الرَّشيدَةَ”، يدعو قائلاً: “اَللّهُمَّ إِنْ حالَ بَيني وَبَينَهُ الْمَوْتُ (…) فَأَخْرِجْني مِنْ قَبْري مُؤْتَزِراً کفَني، شاهِراً سَيفي، مُجَرِّداً قَناتي”(7)؛ أي إنّ الأمر المهم بالنسبة إليّ هو السير في ركاب الإمام، وحكومة الإمام، وحاكميّة الحقّ.
1.غرر الحكم، ح 1129.
2.”إِلَي مَتَي أَحَارُ فِيكَ يَا مَوْلَايَ وَإِلَي مَتَي وَأَيَّ خِطَابٍ أَصِفُ فِيكَ وَأَيَّ نَجْوَي عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُنَاغَي عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَي عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَي هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكَاءَ (…) هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْنِي عَلَي الْقَذَي (…) مَتَي نَنْتَفِع مِنْ عَذْبِ مَائِكَ فَقَدْ طَالَ الصَّدَي؟”. إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس، ص298. وكذلك: مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
3.در محضر بهجت، ج 2، الرقم 267.
4.(م.ن)، الرقم 276.
5.إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس، ص298. كذلك: مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
6.الكافي، ج 4، ص 162.
7.مفاتيح الجنان، دعاء العهد. كذلك: المصباح للكفعمي، ص 550.