الذنوب وقساوة القلوب
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...﴾[1]. إنّ قسوة القلب وذهاب اللين والرحمة والخشوع مرض خطيرٌ جداً، قد ذمّ الله عليه بعض الأمم السابقة كبني إسرائيل، وإنّ صاحب القلب القاسي أبعد ما يكون عن الله تعالى، وصاحبه لا يُميِّز بين الحقّ والباطل، ولا ينتفع بموعظة ولا يقبل نصيحة.
فالقلب إذا صَلُح استقام حال العبد، وصحَّت عبادته، وصار يعيش في سعادة وهناء، وذاق طعم الأنس ومحبّة الله ومناجاته، ولكن إذا قسا القلب وأظلم، فسُد حال العبد، وخلت عبادته من الخشوع، وغلبت عليه مظاهر وآثار متعدِّدة، فتراه لا يخشع في صلاته وعبادته ولا يتأثّر بقراءة القرآن، ولا تنفعه المواعظ ولا يتأثَّر بها، ويحسّ بضيقٍ شديدٍ وفقرِ نَفْسٍ رهيب، حتَّى لو ملك الدُّنيا بأسرها. روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال بهحتَّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله"[2].
إنّ تراكم المعاصي وظلمتها على قلب الإنسان يُصيّره طبعاً له، لأنّ الذّنوب لها ظلمات إنْ تراكمت صارت ريناً، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[3].
وإذا صارت هكذا، طُبع على قلب الإنسان، وهذا ما قد يُعبّر عنه بالقلب الأسود أو المنكوس وغير ذلك. إذ يُصبح هذا القلب قابلاً لكلّ أنواع الضلالة والانحراف، فلو فرضنا أنّ فيه نوراً ما، فإنّ ارتكابه الذّنوب ينزع من قلبه النّور، ولا يعود قابلاً لتلقِّي الحقّ أبداً، بل يخرج منه ما كان فيه من الحقّ فيصبحُ خالياً قابلاً لكلِّ ضلالةٍ وانحراف، لأنَّها من سنخه المظلم. لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: إذا "أذنب الرجل خرج من قلبه نكتة[4] سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت. حتَّى تغلب على قلبه، فلا يُفلح بعدها أبداً"[5]. وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذّنوب"[6].
الذنوب وزوال النعم
"النِّعمة هي الحال الحسن والعيش الرَّغيد، ونعمة العيش حسنه ونضارته، وزوالها عقوبة إلهية لمن لا يشكر الله على النِّعمة والعطاء، وارتكاب الذّنوب بشكلٍ عام يؤدِّي إلى زوال هذه النِّعمة، وإن كان هناك ذنوبٌ خاصَّة توجب تغيير النِّعمة، مثل البغي على النَّاس، وترك اصطناع المعروف وكفران النِّعم وترك الشّكر"، وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في دعاء كميل: "اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ"[7]. فالله تعالى بمقتضى عدله المطلق وقصده في حكمه لا يُغيِّر نعمةً أنعمها على أحدٍ، ولا يسلبها أحداً إلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[8].[9]
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾[10].
روي عن الإمام علي عليه السلام: "فما زالت نعمةٌ ولا نضارةُ عيشٍ إلا بذنوب اجترحوا، إنّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد، ولو أنّهم استقبلوا ذلك بالدّعاء والإنابة لم تزل"[11].
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فسلبها إيّاه حتَّى يُذنب ذنباً يستحقّ السَّلب"[12].
الذنوب ونقصان العمر
لقد تحدّثت بعض الرّوايات عمّا يوجب زيادة العمر والرِّزق ونقصانهما وعدم البركة فيهما، كبرِّ الوالدين وعقوقهما، وصلة الرحم وقطيعتها، روي عن الإمام الصّادق عليه السلام: "من يموت بالذّنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثرممّن يعيش بالأعمار"[13].
فالله تعالى إذا أنعم على مجتمع أو فرد نعمة زيادة العمر، فذلك من أجل التكامل المعنوي والاستفادة من نعمة الحياة. فالحياة على قسمان: حياة الأبدان، وحياة القلوب، وعمر الإنسان الحقيقي ليس إلا أوقات طاعته وارتباطه بالله تعالى، وبالتقوى تزيد هذه الساعات التي هي عمره الأصلي، وإذا أعرض عن الله واشتغل بمعاصيه ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية، فالمعاصي تؤثّر على حياة الأبدان كما تؤثّر على حياة القلوب.
هُدىً وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة البقرة، الآية 74.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص268.
[3] سورة المطففين، الآية 14.
[4] النكتة، النقطة، وكلّ نقطة في شيء بخلاف لونه فهي نكتة.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص271.
[6] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص45.
[7] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 269، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.مط، لا.ط، 1379 - 1338 ش.
[8] السيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج3، ص332، جواد القيومي الاصفهاني، مكتب الإعلام الإسلامي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، رجب 1414.
[9] سورة الانفال، الآية 53.
[10] سورة الأعراف، الآية 96.
[11] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج5، ص178.
[12] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص274.
[13] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص140.