كان الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة لمدّة عشر سنوات، وكذلك بني العبّاس (فقد واجههم) لمدّة طويلة. وعندما كان انتصاره على بني أميّة حتميًّا، جاء بنو العبّاس كتيّارٍ انتهازيٍّ، ونزلوا إلى الميدان. ومن بعدها صار الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة وبني العبّاس أيضاً.
وقد نُقل عن الطّبريّ - المؤرّخ المعروف - أمورٌ تتعلّق بمحاربة الإمام عليه السلام لبني أميّة في مطلع السنوات العشر لإمامته. كانت مواجهة الإمام الصادق عليه السلام في هذه المرحلة قد أضحت علنيّة، فلم يكن يحتاج إلى التقيّة والكتمان، وذلك بسبب أنّ خلفاء بني أميّة كانوا مشغولين إلى درجة أنّه لم تُتح لهم الفرصة ليُلاحقوا الإمام الصادق وشيعته، كما لم يكن لديهم القدرة على قمعهم، لذا لم يحتج الإمام الصادق عليه السلام إلى إخفاء عمله. كان الإمام الصادق عليه السلام يذهب يوم عرفة إلى عرفات، ويقف بين هذه التجمّعات الكبيرة الّتي جاءت من نقاط العالم الإسلاميّ جميعها، من أفريقيا والشّرق الأوسط والحجاز والعراق، ومن إيران ذلك اليوم، ومن خراسان وأفغانستان ذلك اليوم، ومن تركستان الشرقية ـ فقد توافدت النّاس من الأقطار جميعها، بحيث لو فجّرت قنبلةً في هذا المكان، تكون وكأنّك فجّرتها في العالم الإسلاميّ كلّه، وإذا قُلتَ شيئًا في هذا المحفل والتجمّع، تكون وكأنّك نشرته عبر شبكة إعلاميّة عالميّة. فكان الإمام الصادق عليه السلام يأتي إلى داخل هذا التجّمع الكبير، ويُعلن بصراحة، وبشكلٍ رسميّ، للنّاس أنّ الإمام والحاكم بحقّ في هذا اليوم هو جعفر بن محمد، وليس أبي جعفر المنصور، وكان يأتي بالدّليل على ذلك، لا الاستدلال الكلاميّ والعقلانيّ، لأنّه لم يكن لدى النّاس في ذلك الوقت الاستعداد للاستماع إلى مثل هذا النّوع من الاستدلال، فهو لم يكن واضحًا في مثل ذاك المجتمع، بل كان استدلالٌ من نوعٍ آخر، لأنّ المنصور العبّاسيّ وأمثاله، ولأجل أن يقنعوا أذهان النّاس، ويتظاهروا بأنّهم خلفاء النبيّ، قد جعلوا سلسلة نَسبية لأنفسهم، وكانوا يقولون إنّنا نحن أبناء العبّاس، فقد كان لهم سلسلتان من النّسب، وكانوا في كلّ مرّة يُصرّحون عن واحدة منها.
كان أحدها أنّهم كانوا يقولون نحن أبناء العبّاس عمّ النبيّ، وبعد رحيله أضحت الخلافة لبني هاشم. وبين بني هاشم، فإنّ الأكبر سنًّا، وكما يُقال الأنسب، هو العبّاس عمّ النبيّ، فالخلافة بعد النبيّ كانت للعبّاس، ولأنّنا نحن أبناؤه، فإنّها تصل إلينا. كان هذا نحو من كلامهم. وكانوا يتحدّثون عن سلسلةً نسبيّةً أخرى، فيقولون نحن أبناء عليّ العبّاسيّ، أي عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وحقّاً كانوا يقولون لأنّهم كانوا أحفاد عليّ العبّاسيّ أو أبناءه، وهو تلميذ محمد بن الحنفيّة، ومحمّد بن الحنفيّة هو ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الّذي هو صهر النبيّ، فالخلافة انتقلت من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام، ومن عليّ عليه السلام إلى محمّد بن الحنفيّة - لا إلى الحسن والحسين - ومنه وصلت إلى ابن عبد الله بن العبّاس - الّذي هو جدّنا - ومنه وصلت إلينا، فنحن إذًا خلفاؤه.
فكانوا يؤلّفون سلسلةً نسبيّة على هذا النّحو، وكان هذا الأمر مقنعًا لأذهان النّاس في ذاك الزمان، لأنّ مستواهم الفكريّ كان متدنّيًّا. لهذا كان الإمام يقف وسط هذا التجمّع الكبير، ويُبيّن السلسلة الصحيحة للإمامة: "أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام، ثمّ كان عليُّ بن أبي طالب"[1]، وهو منطق الشّيعة المعروف، "ومن بعده الحسن، ثمّ الحسين، ومن بعده عليّ بن الحسين، ومن بعده محمّد بن عليّ، ومن بعده أنا"، فيعرّف نفسه كإمامٍ. ومثل هذا كان يتطلّب شجاعة كبيرة، ولم يكن بالكلام العاديّ البسيط، بل كان ذلك أكبر إعلانٍ للمخالفة والمعارضة. كان الإمام الصادق عليه السلام يقوم بمثل هذا العمل في أواخر عصر بني أميّة.
في عصر بني العبّاس الذي دام لمدةٍ أطول، أضحت المواجهة أكثر خفاءً، فلم تعد التحركات الجهادية علنية، بل كانت تجري بالتقيّة والكتمان، وسبب ذلك أنّ بني العبّاس كانوا يرفعون شعارات آل عليّ، ومواقفهم باللسان، فكان ظاهرهم ظاهر آل عليّ، وعملهم عمل بني أميّة. فكان بنو العبّاس يُمثّلون ذلك التيّار الانحرافيّ الّذي انتهز الفرصة، وحرّف الثّورة الّتي كان الإمام الصادق عليه السلام بصددها، وهذا هو الخطر الدائم الثورات كلّها، حيث يتم أحيانًا استبدال الخطّ الصحيح للثّورة، الّذي يتطابق مع معاييرها وضوابطها الأساس، بخطٍّ بديلٍ منحرفٍ فاسدٍ باطلٍ، تحت شعارات الحقّ. من هنا، على الإنسان أن يكون حذرًا وواعيًا. ولم يكن أهل ذلك الزمان يمتلكون مثل هذا الوعي. فبعد سنوات، لعلّه بعد ثلاثين أو عشرين سنة ، بعد مجيئ بني العبّاس إلى الحكومة ، كان سكّان المناطق النّائية ما زالوا يظنّون بأنّ هذا الأمر حصل نتيجة جهادهم من أجل آل عليّ. لقد كانوا يتصوّرون بأنّ هذه هي حكومة آل علي نفسها، فلم يكن لديهم علم بأنّهم غاصبون (للخلافة).
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ تلك الرّوايات التي تنقل أنّ الإمام عليه السلام كان يتذلّل ويظهر الخضوع للمنصور، لا أساس لها من الصحّة، ولا تقوم على أساس أو سندٍ صحيح ومعتبر، وغالبًا ما تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب، المقطوع بفسقه، والّذي كان من المقرّبين للمنصور. كان بعضٌ قد نقل بسذاجة أنّ الربيع كان شيعيًّا، والصحيح أنَّ البحث التاريخيّ يؤكّد أنَّ الربيع بن يونس هو من الأشخاص الذين وُلدوا في منزل أسيادهم، وأتى إلى جهاز حكم بني العبّاس، وكان عبدًا لهم، وحاجب المنصور، وكان قد قدّم لهم الخدمات الكثيرة، وعندما كان المنصور يحتضر، كانت الخلافة ستذهب من أيدي عائلته لولا الربيع.
كان أعمامه موجودين، فقام الرّبيع بتزوير الوصيّة لتصبح الخلافة للمهديّ بن المنصور، وهكذا أوصل المهديّ إلى الخلافة، فهذه العائلة هي من العوائل الوفيّة والمخلصة لبني العباس، ولم يكن لهم أيّ ولاء لأهل البيت عليهم السلام. وكل ما وُضع (عن الربيع حول الإمام) فهو تلفيق وكذب، من أجل إظهار الإمام عليه السلام للمسلمين آنذاك بالإنسان المتذلّل والخاضع أمام الخليفة، حتّى يعتبر الآخرون أنّ هذا هو تكليفهم أيضًا. على كلّ حال، فإنّ معاملة المنصور للإمام الصادق عليه السلام كانت معاملة قاسية جدّاً.
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص466.