أبحاث ومفاهيم
السنن التاريخيّة عبارة عن الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ.
السنن التاريخيّة عبارة عن الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ.
لقد بيّنت هذه الحقيقة في عدّة آياتٍ. في بعض هذه الآيات أعطيت الفكرة بصيغتها الكليّة، وفي بعض الآيات أعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج، وفي آيات أخرى حصل الحثّ الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية، وشحذ الهمم لإيجاد عمليّة استقراء للتاريخ. وعمليّة الاستقراء للحوادث ـ كما تعلمون ـ هي عمليّة علميّة بطبيعتها، تريد أن تفتّش عن سنّةٍ، عن قانونٍ، وإلا فلا معنى للإستقراء من دون افتراض سنّةٍ أو قانونٍ. إذاً هناك ألسِنَةٌ متعددةٌ درَجت عليها الآيات القرآنيّة في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.
تفرّد القرآن بمفهوم السنن التاريخيّة
وهذا المفهوم القرآنيّ يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم، لأنّنا في حدود ما نعلم، القرآن أوّل كتابٍ عرفه الإنسان أكّد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصرّ عليه، وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم. الإنسان الاعتياديّ كان يفسّر أحداث التاريخ بوصفها كومةً متراكمةً من الأحداث، يفسّرها على أساس الصدفة تارةً، و تارةً أخرى على أساس القضاء والقدر والإستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى. القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفويّة، وقاوم هذه النظرة الإستسلامية، ونبّه العقل البشريّ إلى أنّ هذه الساحة لها سننٌ، ولها قوانين، وأنّه لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلاً مؤثّر، لا بدّ لك أن تكتشف هذه السنن، لا بدّ لك أن تتعرّف إلى هذه القوانين، لكي تستطيع أن تتحكّم فيها، وإلا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين.افتح عينيك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذه السنن، لكي تكون أنت المتحكّم، لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك.
هذا الفتح القرآنيّ الجليل، هو الذي مهّد إلى تنبيه الفكر البشريّ بعد ذلك بقرون، إلى أن تجرى محاولاتٌ لفهم التاريخ فهماً علميّاً. بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات، بدأت على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولةٍ لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثمّ بعد ذلك بأربعة قرون ـ على أقلّ تقديرـ اتّجه الفكر الأوروبّي في بدايات ما يسمّى بعصر النهضة، بدأ لكي يجّسد هذا المفهوم الذي ضيّعه المسلمون، والذي لم يستطع المسلمون أن يتوغّلوا إلى أعماقه. هذا المفهوم أخذه الفكر الغربيّ في بدايات عصر النهضة، وبدأت هناك أبحاثٌ متنوّعة ومختلفةٌ حول فهم التاريخ، وفهم سنن التاريخ، ونشأت مدارس متعدّدة كلّ واحدةٍ منها تحاول أن تحدّد نواميس التاريخ.
وقد تكون الماديّة التاريخيّة أشهر هذه المدارس، وأوسعها تغلغلاً، وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه. إذاً كلّ هذا الجهد البشريّ في الحقيقية، هو استمرار لهذا التنبيه القرآنيّ. ويبقى للقرآن الكريم مجده، في أنّه طرح هذه الفكرة لأوّل مرّةٍ على ساحة المعرفة البشريّة.
التأثير المباشر للسنن في عمليّة التغيير
إنّ البحث في سنن التاريخ مرتبطٌ ارتباطاً عضويّاً شديداً بكتاب الله بوصفه كتاب هدىً، بوصفه إخراجاً للناس من الظلمات إلى النور، لأنّ الجانب العمليّ البشريّ والتطبيقيّ من هذه العمليّة، يخضع لسنن التاريخ، فلا بدّ إذاً أن نستلهم، ولا بدّ إذاً أن يكون للقرآن الكريم تصوّرات وعطاءات في هذا المجال، لتكوين إطارٍ عامٍ للنظرة القرآنيّة والإسلاميّة عن سنن التاريخ.
إذاً هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات. تلك السنن ليست داخلةً في نطاق التأثير المباشر على عمليّة التاريخ، ولكن هذه السنن داخلةٌ في نطاق التأثير المباشر على عمليّة التغيير، باعتبار الجانب الثاني (البشريّ). إذاً لا بدّ من شرح ذلك ولا بدّ أن نترقّب من القرآن إعطاء عموميّات في ذلك. نعم لا ينبغي أن نترقّب من القرآن أن يتحوّل أيضاً إلى كتابٍ مدرسيٍّ في علم التاريخ وسنن التاريخ، بحيث يستوعب كلّ التفاصيل وكلّ الجزئيّات، حتّى ما لا يكون له دخل في منطق عمليّة التغيير التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما القرآن الكريم يحتفظ دائماً بوصفه الأساسيّ والرئيسيّ، يحتفظ بوصفه كتاب هدايةٍ، كتاب إخراج للناس من الظلمات إلى النور، وفي حدود هذه المهمّات الكبيرة العظيمة التي مارسها، في صدور هذه المهمّة، يعطي مقولاته على الساحة التاريخيّة، ويشرح سنن التاريخ. بالقدر الذي يلقي ضوءاً على عمليّة التغيير التي مارسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بقدر ما يكون موجّهاً وهادياً وخالقاً لتبصّرٍ موضوعيٍّ للأحداث والظروف والشروط. ونحن في القرآن الكريم نلاحظ هذه الحقيقة، حقيقة أنّ للتاريخ سنناً، أنّ الساحة التاريخيّة عامرةٌ بسننٍ كما عمرت كلّ الساحات الكونيّة الأخرى بسنن.