عندما يتحدّث المرشد الأعلی في إيران، فهو هنا لا ينطق عن الهوى، إنما هو وحي الثورة الإسلامية ومصالحها الإستراتيجية من وجهة نظر الإيرانيين الذين يوحي إليهم. وليس آية الله السيد علي خامنئي، لمن يعرفوه جيداً، ممن يستعملون الديبلوماسية في القول للمجاملة في خطاب الدول الأخرى، وهو عندما قال لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إن العلاقة هي الأفضل منذ قرون، قالها وهو يعي حقاً أنها تأتي ضمن رؤيته الشاملة لما أطلق عليه سابقاً إسم "الصحوة الإسلامية".
قالها وهو على ثقة أن صفحة مهمة جداً في تاريخ الشرق الأوسط فتحت، لا بل هي الترياق المشترك السني الشيعي لعلاج لدغة الإقتتال الطائفي المقيتة.
الصورة قد تبدو للبعض مثالية، لكن الإيرانيين يعتقدون أن المستحيل لم يخلق لهم، إذ أنهم واجهوا الكثير من المستحيلات خلال العقود الثلاثة والنصف الماضية من الثورة الإسلامية، وتمكنوا من القفز فوق العقوبات والحروب وما يصفوه بالمؤامرات الخارجية والداخلية بنجاح، أوصلهم إلى النووي والفضاء، وليكون اقتصادهم، رغم التضخم والمشاكل، واحداً من بين أكبر عشرين اقتصاداً عالمياً.
ولأن الإيرانيين يوقنون أن المصالحة الإسلامية - الإسلامية هي المستحيل بعينه في ظل الظروف الحالية، يبدو أنهم اختاروا أن يخوضوا وشريكهم التركي هذا اليمّ بعواصفه المتوقعة وأنوائه المعروفة، ويكفي المركب ثلاثة أشرعة ليبحر، شراع شيعي وآخر سني، وهو ما يتوفر في إيران وتركيا، ويبقى الشراع العربي.
وبالعودة إلى لقاء طهران وما قيل وما جال في البال، نقطة في البداية لا بد من إيرادها. إيران تعلم جيداً أن أساس العلاقة مع دولة بحجم تركيا وتأثيرها في المنطقة تبدأ بالإحترام المتبادل، أي أن كلا البلدين يحترم وجهات نظر الآخر، وإن اختلف معها، وكلٌ ينصح الآخر ويقدم له المشورة حيث لزم من دون التزام.
وحتى في القضية الأكثر جدلية بينهما، أي سوريا، ما زالت إيران على موقفها، وتركيا وإن عدلت في نظرتها للقضية في العموم لكنها لم تتراجع عن فكرة التغيير هناك ودعم بعض من قرروا أن يخرجوا على حكم الرئيس السوري بشار الأسد. "الحوار هو الحل"، هذا ما سمعه الأتراك مراراً، وهو ما اقتنعوا به، وهنا بيت القصيد.
بعيداً عن طهران وأنقرة كانت تجري مفاوضات، يصح القول إنها بعض الشيء مستحيلة بين "بعض" المعارضة السورية والنظام، وهذا البعض في رأي الأتراك والإيرانيين لديه مربط فرس معروف في السعودية، وهي بالمناسبة دولة تجمعها بوريثتي الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية حال خصومة تتطور يوماً بعد يوم لتصبح عداوة.
المفاوضات برعاية دولية أميركية روسية، والصورة من الزاوية الإقليمية تشير إلى أن واشنطن وموسكو، وإن كانت لديهما النيّة للوصول إلى حلّ ما، فكلاهما أقل قدرة على إقناع الطرفين بسلوك درب يوصل إلى تسوية عادلة. المشكلة إقليمية، وأهل الإقليم أدرى بشعابه، فليكن إذاً الحلّ إقليمياً.
مما سمع هنا وهناك أن أنقرة وطهران ستعملان يداً بيد لإنهاء الأزمة السورية، يد أنقرة المتشابكة مع بعض المعارضة السورية وما تملكه من تأثير قوي على هذا البعض، ويد طهران المتأبطة ذراع النظام وما لديها من "مونة"، عليه، يضاف إليهم المعارضة الداخلية السورية ومن يرغب من المعارضات الباقية، هؤلاء جميعاً من الممكن أن يتجالسوا ويتحاوروا في مونترو أو بغداد أو مسقط أو أي مكان يرضى الأطراف به، والأهم أن الحوار سيترافق مع سعي إيجابي من الرعاة الإقليميين للوصول إلى نتيجة تشبه الحلول اللبنانية، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
القضية معقدّة للغاية، بيد أن مقدماتها تشي ببعض التفاؤل، فالدم دم الجميع والمصير مصير الجميع، والحرب السورية لم تعد حرباً بين معارضة ونظام، بل أصبحت حرباً إقليمية بأدوات سورية والجميع فيها يحيى على حد السكين.
سمع أردوغان الكثير في طهران، ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو سمع أكثر، بل إن داود أوغلو ربما تمنى لو أنه لم يرافق رئيسه في زيارته، لأن ما سمعه من عتب على كلمته في مونترو لم يبادر حتى رئيسه للدفاع عنه، لكنه عتب ومضى، مضى مع أول صاروخ من طائرة تركية على قافلة مسلحة لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، جاء تأكيداً على قول الرئيس الإيراني حسن روحاني إن "طهران وأنقرة تشتركان في وجهات النظر حيال قضايا المنطقة المهمة، خصوصاً محاربة الإرهاب والتطرف وتقديم المساعدات للشعب السوري"، وردّ أردوغان بالقول "تركيا تسير كتفاً بكتف مع إيران في محاربة المجموعات الإرهابية وسيعمل البلدان على تطوير تعاونهما في هذا المجال".