لمن الأولوية في الصراع على الرئاسة التركية؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)

لمن الأولوية في الصراع على الرئاسة التركية؟

طرح انتصار رجب طيب أردوغان في الانتخابات البلدية أسئلة عميقة لا يمكن تجاهلها في ما خص اللحمة الداخلية التركية والاستقطابات التي تمر بها البلاد، وأهمية التركيبة المجتمعية في ظل التغيرات الاقتصادية والتنموية التي أدت الى انتقال تركيا من دولة ترزح تحت ثقل الأزمة الاقتصادية الى دولة زاد متوسط دخل الفرد فيها على ما يقارب ثمانية آلاف دولار سنوياً، وحققت إنجازات تنموية تقوم بها البلديات التي كانت كفيلة وحدها بإنجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية.

لقد طرحت المشاركة الكثيفة في الانتخابات والصراعات بين الأطراف السياسيين أسئلة حول الديموقراطية وتأثير فضائح الفساد في توجهات الناخب التركي، ولا سيما أن استطلاعات الرأي أظهرت عدم اكتراث الأغلبية التي صوتت لأردوغان وحزبه بهذه الفضائح ولا بسقوط رهاناته في السياسة الخارجية، وأثبتت أن انتخابات البلدية ومعاييرها بحت داخلية. أما مسألتا الفساد والمحاسبة فقد شكلتا معياراً بالنسبة إلى شرائح معينة علمانية وقومية، وكان لجماعة «الخدمة» بزعامة الداعية فتح الله غولن الحصة الأكبر في أخذ مواقف جذرية حيالها.

إن طموح أردوغان في الاستمرار بحكم تركيا، لكن كرئيس للجمهورية بعد توسيع صلاحيات الرئيس بتعديلات دستورية وقانونية، جعل من الانتخابات المحلية تبدو كأنها استفتاء ليس على الحزب، بل على شخصه وإمكانات فوزه في الانتخابات الرئاسية، ما يمكّنه من سبر مكامن الضعف التي ربما تعترضه وكيفية مواجهتها، ولا سيما أن المعارضة التي أوجعته جاءت من «الجامع»، أي من داخل البيت الإسلامي من الداعية الإسلامي غولن؛ فأردوغان ومؤيدوه رأوا فيها مؤامرة خارجية، لذلك بدأوا بعد الانتخابات مباشرة بالعمل على محاربتها في الداخل، حيث هدد أردوغان معارضيه بالثأر لكرامته وكرامة عائلته. وعلل سبب منعه لتويتر بكون القيّمين على هذه الوسيلة لا يلتزمون بالقوانين التركية ولا يدفعون الضرائب ولا يملكون مكتباً في تركيا، ما دفع هؤلاء إلى توقيع اتفاقات بعد سماح المحكمة لهم بعودة البث.

ما هي القواعد التي أمّنت فوز العدالة والتنمية؟

لم تستطع الحملة المعارضة التي قامت ضد أردوغان واتهمته علناً بالصوت والصورة بالفساد منذ 17 كانون الأول أن تشكل كرة ثلج وتدحرجه عن السلطة؛ فبحسب النتائج الرسمية، فاز العدالة والتنمية بـ 44% تقريباً من نسبة الأصوات بعد منعه تويتر وكل وسائل التواصل الاجتماعي، وقمع التظاهرات والممارسات القمعية التي تلتها ومحاولة وضع القضاء تحت الوصاية السياسية والتي باءت أخيراً بالفشل بفضل المحكمة الدستورية، إضافة الى عزل المحققين والقضاة الذين حققوا في تهم الفساد والاقتصاص منهم واستبدالهم، بعد وضع قسم كبير من أعضاء الشرطة موضع تساؤل وتأديب.

أما المعارضة المشرذمة، فقد نالت باقي الأصوات التي توزعت على حزب الشعب 25.64% وحزب الحركة القومية 17.67% وحزب السلامة والديموقراطية 4.68% وحزب السعادة 2.75% والشعب الديموقراطي 1.92% وحزب الاتحاد الكبير 1.57%. هذه المعارضة إن بقيت على تشرذمها فلن تستطيع إنزال أردوغان عن عرشه. كذلك لن يستطع هذا الأخير الفوز بانتخابات الرئاسة بأرجحية كبيرة.

لقد برهنت الانتخابات البلدية أن المواطن التركي متمسك باستقراره الاقتصادي والمالي الذي تحقق مع العدالة والتنمية؛ فالمشاركة السياسية في الانتخابات طالت ثمانين في المئة من الناخبين، وهذا بحد ذاته يعتبر اهتماماً بالعملية السياسية، لكن التنمية لعبت الدور الأساس لما للبلديات من أهمية في بلاد تسعى الى إحداث تغييرات على صعيد البنى الاجتماعية. كذلك فإن الكتلة الضخمة التي تدعم أردوغان والعدالة والتنمية تتمركز في مدن إقليم الأناضول التي بدأت بالصعود في السنوات الأخيرة كمراكز للنمو في قطاعات مختلفة. صحيح أن اسطنبول لا تزال قاطرة البلاد، لكن المجالس المحلية تعاونت لتطوير بنية تحتية وإقرار صلات دولية ومحاولة التحول إلى مراكز إنتاجية لقطاعات بعينها.

إن التعاطف مع المتظاهرين في اسطنبول وأزمير وأنقرة، وهي أكبر ثلاث مدن في البلاد حيث نظمت أضخم الاحتجاجات، لم يكن ذا ثقل كبير في مدن الأناضول؛ فوضع سكان معظم مدن الأناضول تحسن اقتصادياً وتنموياً وتجارياً مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. لقد تمكّن قطاع البناء من استئناف حضور واسع النطاق في إطار السعي إلى «تحديث» هذه المدن، حيث التجارة والزراعة تعود لملكيات عائلية. ولم تعنِ زيادة الخصخصة في هذا السياق انتقاصاً من دور الدولة هناك، بل تم تقديم المنح وتأمين السكن العام للتعاونيات والأفراد. ولم يتأثر معظم هؤلاء بوسائل التواصل الاجتماعي ولا بالفساد، ولا سيما أنه كان موجوداً في تركيا قبل العدالة والتنمية. وهم يرون أن الحزب انتشلهم من المستنقع وارتفع دخل الفرد إلى ثلاثة أمثاله من حيث القيمة الاسمية، وانتعشت الأعمال، وجنت «نمور الأناضول» معظم الثمار. هذا لا يعني أن التحديث لم يطل مدن ومناطق أخرى، لكن هذه المنطقة بالتحديد أعطت معظم أصواتها لأردوغان وحزبه.

بدأت حكاية «نمور الأناضول» في أعوام الثمانينيات من القرن العشرين مع سياسات التحرير الأولى التي انتهجها حزب الوطن الأم الحاكم آنذاك في تركيا. نجاح تلك المدن استُمِدّ من التصنيع الذي نتج في الدرجة الأولى من تحوّل حاضرات تركيا الكبرى (اسطنبول، أنقرة، وأزمير) إلى اقتصاد ما بعد الصناعة. وجاءت السياسات الوطنية المُتّبعة واتفاقيات التجارة الدوليّة لتمهد الطريق أيضاً أمام نموّ صناعات هذه المدن. كذلك ساهمت السياسات التركيّة الآيلة إلى بناء الثقة شرقاً وغرباً في العمل لمصلحة مدن «النمور»: انهيار الكتلة السوفياتيّة في أعوام التسعينيات، مثلًا، قاد إلى روابط جديدة مع بلدان آسيا الوسطى.

الطريق الى شنقايا

في محاولتها للرد على المعارضة، طلبت وزارة الخارجية التركية عبر سفاراتها في الدول الصديقة إغلاق المدارس التي أنشأها فتح الله غولن داخل هذه الدول. لكن هذه المدارس ليست خاضعة للدولة التركية، وهي بمثابة قطاع خاص أو جمعيات مدنية. لقد أتت زيارة أردوغان الأخيرة لأذربيجان لتقول إن التوتر السياسي لن يتراجع في تركيا بعد الانتخابات؛ فالمعركة تبدأ عبر وضع حد للجماعة التي خاض معها سابقاً معارك ضد العلمانيين المتشددين في الجيش والقضاء والتعليم العالي، وساهما معاً في رفع أرقام الاقتصاد التركي. لم تتردد الجماعة اليوم في قطع علاقتها بأردوغان وحزبه، فالمصالح تعارضت والمواقف وكذلك السياسات.

ويتهم أردوغان الولايات المتحدة بدعم قضايا سياسية ومالية وأمنية ضده بالتنسيق المباشر مع جماعة فتح الله غولن في مسائل الفساد ودعم مشروع إسقاطه في الانتخابات المحلية الأخيرة، لكونه انتقد سياساتها في سوريا وعدم التزامها بتنفيذ عهود قدمتها له. كذلك اتهمها بمحاولة إزاحته بسبب خلافه معها على عدة ملفات إقليمية وداخلية، منها ما يخص التكتم في العلاقة مع إيران والسكوت عن ضرب الإخوان وإقصائهم في مصر إلخ...

ترى المعارضة وجوب توسيع رقعة تحالفاتها والاتفاق في ما بينها وتوثيق العلاقة مع جماعة الخدمة والاتفاق على مرشح لانتخابات الرئاسة والعمل على مبادئ سياسية من أجل الانتخابات البرلمانية، لأن وصول أردوغان الى قصر شنقايا سيمكّنه ربما من قلب شكل الدولة من نظام برلماني إلى فدرالي، وسيساهم حسب بعض الخبراء في حل الكثير من مشكلات تركيا، وفي مقدمها المسألة الكردية، لكن هذا الأمر يتطلب أغلبية راجحة.

إن النتيجة التي خرجت بها الانتخابات تدل على أن القوى المعارضة ستقف في وجه قرارات أردوغان، وستتمكن من تعطيل قرارات يمكن أن يتخذها. ورهان أردوغان يمكن أن يتمثل في دعم الأكراد وإكمال محادثات السلام معهم والتي يعمل جاهداً مع رئيس استخباراته لإعادة إحيائها. كذلك إعطاء حزب السلام والديموقراطية حيّزاً أكبر من الاهتمام والمطالب، وكسب دعمه في وجه المعارضة.

الأخبار

قراءة 1784 مرة