مع انقضاء أكثر من سبعة أشهر على بدء الاحتجاجات في أوكرانيا، التي تحولت في ما بعد إلى أعمال عنف أدخلت البلاد في دوامة عنف عرقي، وموسكو وواشنطن في نزاع شبّهه الكثيرون بالحرب الباردة، لا يزال النور في آخر نفق الأزمة الأوكرانية بعيداً جداً.
توقيت انفجار الأزمة ليس لغزاً، فقد نزل الأوكرانيون الموالون للغرب إلى الشارع، بعد أشهر قليلة على فشل مساعي الولايات المتحدة للتدخل عسكرياً في الحرب السورية، بسبب المعارضة الشرسة التي أبدتها روسيا لتلك الخطوة، فكانت هذه التحركات الشعبية الهادفة إلى زعزعة أمن دولة تُعتبر الحديقة الخلفية لروسيا وإبعادها عن فلكها، بمثابة الرد الأميركي الأمثل.
لكن الولايات المتحدة لم تكن الوحيدة في معركتها ضد روسيا، بل دعمها الاتحاد الأوروبي بكل ما يمتلك من قوة. لم يكف ممثلوه الدبلوماسيون للحظة واحدة عن ترداد الاتهامات والتهديدات التي كان يلقّنهم إياها حليفهم الأكبر الجالس على المقلب الآخر من المحيط الأطلسي. هذه العلاقة بين واشنطن وبروكسل ليست بجديدة، فلطالما دعم الاتحاد الأوروبي السياسة الأميركية. إلا أن الأزمة الأوكرانية شكلت سابقة من نوعها، فانتصار الولايات المتحدة أو خسارتها للمعركة، لن يجلب للاتحاد سوى المصاعب وآلام الرأس.
الأزمة الأوكرانية بدأت مع رفض الرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، التي كان من الممكن أن تفتح الباب أمام هذا البلد الفقير للتقدم بطلب للدخول في الاتحاد بعد بضع سنوات. تلا هذا الرفض تظاهرات شعبية كبيرة بعدما اعتقد الكثير من الأوكرانيين أن رئيسهم فوّت عليهم فرصة ذهبية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن ما لم يعلمه هؤلاء هو أن الاتحاد لم ينوِ يوماً ضمّ أوكرانيا إليه، وهو ما أكده وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بعد حضوره حفل تنصيب الرئيس الأوكراني الجديد بيترو بوروشينكو. وكلام فابيوس يدعم النظرية القائلة بأن اتفاقية التبادل التجاري مع أوكرانيا لم تكن سوى محاولة لإبعاد هذه الدولة وإخراجها من الفلك الروسي.
إلا أن الاتحاد وقع في الفخ الذي حاول تجنبه من خلال رفضه ضم أوكرانيا وجعلها عضواً؛ فدخوله في حرب بين روسيا والولايات المتحدة، لا ناقة له فيها ولا جمل، ووقوفه إلى جانب حكام كييف الجدد وضَعه في موقف حرج أمام من آمن من الأوكرانيين بجدوى خياره وصوابيته، عندما قرر النزول إلى الشارع طالياً وجهه بألوان الاتحاد الأوروبي، ورافعاً شعارات معادية لروسيا. واليوم، باستثناء بعض ملايين الدولارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، التي تقدمها الولايات المتحدة لكييف بين الفينة والأخرى، بات على الاتحاد الأوروبي القيام بدور الأب العطوف ومد يده للأوكرانيين الموالين للحكومة، بما قد تنطوي عليه هذه الخطوة من مخاطر.
فمالياً، لا يمكن للاتحاد أن يساعد أوكرانيا في الخروج من أزمة الديون التي تتخبط بها، إذ إن حكومة كييف الانتفالية كانت قد أعلنت بعد تسلمها السلطة في شباط الماضي، أنها بحاجة إلى 35 مليار دولار لاستعادة شيء من عافيتها. والمثير للسخرية هو أن الاتحاد الأوروبي عانى الأمرّين من أجل مساعدة بعض الدول الأعضاء فيه على الخروج من ضائقتها المادية، فما بالك بدفع مبلغ كهذا لمساعدة دولة غير عضو. زد على ذلك، فقدان أوكرانيا شبه جزيرة القرم الغنية بالغاز الطبيعي والنفط، والتي كان بإمكانها أن تساهم في انتشال الاقتصاد الأوكراني من ضائقته، من خلال عائدات مواردها الطبيعية، وأن تلعب دوراً مهماً في جذب الاستثمارات الأوروبية الكبرى. إلا أن الأقدار شاءت أن تخسر أوكرانيا القرم لصالح روسيا.
سياسياً، خاطر الاتحاد بدعمه الانقلابيين، وذلك لعلمه بوجود عناصر من تنظيم «القطاع الأيمن» اليميني المتطرف، المسؤول عن مجزرة أوديسا شرق أوكرانيا والتي راح ضحيتها أكثر من 46 انفصالياً في شهر آذار الفائت، بين صفوفهم وقياداتهم. ومع اكتساب هذا التنظيم شيئاً من الشرعية بسبب الغطاء الذي أمّنه له الاتحاد ولأفعاله، استمر «القطاع الأيمن» في عمله التحريضي النازي بحرية في الجزء الغربي من أوكرانيا، مدمراً ومحرقاً كل ما هو على غير صلة بالقومية الأوكرانية. وغرب أوكرانيا هو الجزء المتاخم لأوروبا. وفي وقت تشهد فيه القارة القديمة موجة صعود للقوى اليمينية المتطرفة والمتعاطفة مع النازية، ينبغي على الاتحاد اعتماد سياسة مختلفة في التعاطي مع «القطاع الأيمن» إذا كان لا يريد رؤية يمينيي الداخل الأوروبي يتعلمون ويأخذون العبر والدروس من جيرانهم الجدد.
من جانب آخر، ولسوء حظ الاتحاد الأوروبي، فإن المشاكل التي ورّط نفسه فيها لا تقف عند هذا الحد، فدعمه للانقلابيين على السلطة الشرعية في أوكرانيا، وَضَعهم في مواجهة مباشرة مع روسيا، ونتائج هذه المواجهة قد تكون كارثية على دول الاتحاد.
ففي الصراع على أوكرانيا، قرر الاتحاد الأوروبي استغلال ورقة الغاز الطبيعي الذي يعد من أهم الصادرات الروسية إلى أوروبا، من أجل ابتزاز الروس اقتصادياً وإجبارهم على التراجع عن موقفهم. لكن ما لم يتوقعه الأوروبيون هو أن يلتفّ عليهم الروس، ليبرموا صفقة تاريخية مع الصين أواسط شهر أيار المنصرم، تدفع من خلالها الصين 400 مليار دولار مقابل الحصول على الغاز الروسي لمدة ثلاثين عاماً. وضع هذا الاتفاق أوروبا في موقف لا تحسد عليه، فروسيا، على الرغم من المدخول الكبير الذي يدرّه اتفاق نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، التي تستورد ما يعادل 39% من حاجتها للغاز الطبيعي من روسيا، لم تعد تنظر لأوروبا على أنها الشريك الأوحد لاستيراد الغاز، وبالتالي ما عادت ورقة الغاز في يد الاتحاد صالحةً للاستعمال. من جانب آخر، فإن تدهور العلاقات الأوروبية الروسية مع إمكانية تشديد العقوبات على الأخيرة مستقبلاً، قد يشكلان ضربة قاسية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي وروسيا معاً، إذ إن عائدات الاتحاد الناتجة من التبادل التجاري مع روسيا بلغت 264 مليار دولار أميركي العام الماضي، مقابل 152 في الجهة المقابلة. كذلك فإن الاستثمارات الأوروبية على الأراضي الروسية تشكل 75% من مجموع الاستثمارات في روسيا، وفي ذلك مصلحة للطرفين في استمرار هذه الاستثمارات وبقائها. الخوف من خسارة تلك الاستثمارات عبّر عنها المسؤولون عن غرفة التجارة الروسية الألمانية منتصف شهر أيار الفائت، عندما أرسل ممثلون عن ثمانمئة شركة ألمانية عاملة في روسيا، رسالة سرية إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تطالبها فيها بالكف عن التلويح بزيادة العقوبات على روسيا، لأن خطوة كهذه سوف تجبر الروس على التخلي عن خدمات الشركات الألمانية، والاستعانة بالشركات المحلية للحلول مكانها، ما سيؤدي إلى تضرر الاقتصاد الألماني لفترة طويلة. كذلك انعكس خوف الشركات الأوروبية من زيادة العقوبات في زيارة مدير شركة «سيمنز» الألمانية العملاقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أواخر شهر آذار الماضي، حيث أكد على عمق وصلابة العلاقات التجارية بين البلدين ونية الشركة متابعة العمل مع الروس، وهو ما أثار غضب الحكومات الأوروبية.
هذا الخلاف الناشب بين الحكومات الأوروبية والشركات المستفيدة من العمل في روسيا جنته الأولى على نفسها، جرّاء تبعيتها العمياء لأوامر واشنطن، وكما تبيّن، فإن دخول الاتحاد الأوروبي في هذا الصراع الروسي الأميركي على أوكرانيا وقيامه بدور رأس الحربة فيه، لم يعد على أوروبا سوى بالمشاكل؛ وفي خضم الجدال الحاصل والمعارك المشتعلة شرق أوكرانيا، أمرٌ واحد أصبح مؤكداً، وهو أن الاتحاد الأوروبي، في حال انتصار حليفته واشنطن أو خسارتها للمعركة مع روسيا، سوف يكون الخاسر الأول.
أصدقاء روسيا الجدد
ولّدت الأزمة الأوكرانية إحدى أغرب العلاقات، فمع كل مناسبة كان يستغلها القادة الأوروبيون لتهديد روسيا برفع سقف العقوبات ضدها، كانت الأحزاب اليمينية الأوروبية ترفض تلك التهديدات وتعلن وقوفها إلى جانب روسيا، كما كانت تعلن تضامنها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتثني على خطواته، ومنها خطوته الأكثر جرأة وإثارةً للجدل، وهي ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وقد لامت هذه الأحزاب حكومات بلادها، متهمةً إياها بتأجيج الصراع الأوكراني الداخلي وضرب العلاقات الروسية الأوروبية. وأبرز تلك الشخصيات اليمينية كانت زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبين، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلوسكوني وأحزاب اليمين المتطرف في بلغاريا وبلجيكا.
محمد مرعي - الأخبار