نستطيع ان نعتبر ان حرب "أوسيتيا الجنوبية" بين جورجيا وروسيا عام 2008 هي المؤشر الأول على بدء عودة روسيا كقوة عسكرية عظمى تستطيع التدخل في أي منطقة في العالم من دون النظر إلى أية اعتبارات دولية او إقليمية طالما هذا التدخل يصب في حماية أمنها القومى، حينها راهن الغرب على أن روسيا لن تتدخل عسكريا في أوسيتيا الجنوبية لحمايتها هى وأبخازيا من الهجوم العسكري الجورجى وهذا الرهان حينها كان مبنيا على الأداء الروسي في أزمات سابقة منذ نهاية الحرب الشيشانية الثانية وعلى رأسها الغزو الأميركى للعراق عام 2003 والذى فقدت بسببه روسيا حليف ظل على مدى عقود يعتبر من الحلفاء الطبيعيين لها في الشرق الأوسط. الرهان الغربى كان خاسرا وتدخلت روسيا بقوة في أوسيتيا الجنوبية وأرغمت جورجيا على قبول اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالحكم الذاتى بعد معارك عنيفة استمرت لأيام عدّة منيت فيها القوات الجورجية بخسائر فادحة واتضح لروسيا ضلوع أطراف غربية وإقليمية من أهمها إسرائيل في "تشجيع" جورجيا على خوض هذه المغامرة الخطرة.
التوتر بين روسيا وأوروبا..تكثيف المناورات العسكرية
عقب هذه المعارك بدأت روسيا في إعادة مشاهد من الحرب الباردة بينها وبين الغرب لعل اهمها مشهد العملية العسكرية الناجحة التي نفذها الجيش الروسي في شبه جزيرة القرم والتي انتهت بانتشاره في كامل أراضيها وسيطرته على قواعد الجيش الأوكراني ومنعها من القيام بأى تصرف معاد لتطلعات شعب القرم في الأنضمام إلى روسيا وهو ما تم بالفعل رغما عن كل الأعتراضات الغربية ما شكل أزمة داخل أوكرانيا التي باتت أمام أقليمين آخرين يريدان الانفصال عنها وهو ما جعل التوتر يتصاعد بين روسيا والغرب لدرجة جعلت الدول الغربية تكثف من عقوباتها الاقتصادية على روسيا ومن الحرب الكلامية التي تجلت في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفى قمة العشرين مؤخرا.ونتيجة لهذا التوتر فقد لوحظ ان روسيا بدأت تكثيف مناوراتها العسكرية كما أصبح من المعتاد في الإعلام الروسي الأعلان عن قرب دخول أسلحة جديدة ضمن تسليح الجيش الروسي، كما كثف سلاح الجو الروسي منذ عام 2011 طلعاته الاستطلاعية الاستراتيجية في الأجواء الأوروبية والتي كانت قد توقفت في مطلع التسعينيات وباتت معظم المطارات الحربية الأوروبية عموما والمطارات العسكرية في النرويج والمملكة المتحدة وتركيا والبرتغال وفنلندا وألمانيا في حال استنفار دائم لاعتراض القاذفات الروسية بعيدة المدى من طراز "توبوليف 22" "توبوليف 95" والقاذفات من نوع "سوخوي 24" و "سوخوي 34" ومقاتلات "سوخوي 27" و"ميغ 31" .
روسيا تستعيد نفوذها العسكري والتسليحي في المنطقة
أيضا لوحظ ان روسيا بدأت في استعادة نفوذها العسكري والتسليحي في مناطق عديدة في العالم يأتي على رأسها منطقة الشرق الأوسط، فبدأت إعادة إحياء علاقاتها بالدول التي كانت تحسب في حقبة زمنية ماضية على أنها من أهم حلفاء روسيا مثل مصر والعراق وشرعت أيضا في محاولة فتح جسور للتعاون العسكري مع دول خليجية مثل الكويت والأمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية واتجهت أيضا إلى مزيد من الدعم للدول التي تتمتع معها بعلاقات عسكرية متميزة مثل الجزائر وسوريا، وفي اللحظة الآنية تعتمد روسيا في استراتيجيتها الجديدة على المستوى التسليحي على جناحين "سوريا ومصر".تعود العلاقات التسليحية بين مصر وروسيا إلى الستينيات من القرن الماضى والتي شهدت نمواً وتطوراً كبيراً على كل المستويات. فعسكريا كانت موسكو المورّد الأول للأسلحة والتقنيات العسكرية لمصر. هذه العلاقة مرّت بعدد من المحطات المهمة أهمها كان صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، وظلت هذه العلاقة مستمرة وثابتة حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970.
بعد تولي الرئيس أنور السادات السلطة في مصر بدأت العلاقات بينه وبين الاتحاد السوفييتي تدخل في مرحلة حذرة ووصلت إلى حد التدهور حين اتخذ الرئيس السادات قراراً بترحيل الخبراء العسكريين السوفييت من مصر لتبدأ مرحلة جديدة استمرت حتى اغتيال السادات عام 1981 وفيها تضاءل النفوذ الروسي في مصر لصالح النفوذ الأميركي..
في فترة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك شهدت العلاقة تحسناً تدريجياً بطيئا ازدادت وتيرته منذ عام 2000. حاولت مصر في هذه الفترة البدء في إعادة العلاقات مع روسيا إلى مستويات متقدمة. ربما كانت الدوافع المصرية في هذا الوقت "اضطرارية" أكثر منها "استراتيجية" خصوصا بعد أن استشعر مبارك أن التعاطي الأميركي مع نظامه سيصل إلى نقطة النهاية آجلا أم عاجلا. وبالتالي بدأ في محاولة إعادة العلاقات تدريجيا مع روسيا خصوصا في مجال التسليح، فوقعت القاهرة عام 2005 على عقد تسليحي مع موسكو تم فيه تزويد مصر بعدد من منظومات الدفاع الجوي من نوعي "بوك أم" و"تور أم" إلى جانب تحديث عدد من وحدات الدفاع الجوي. هذه الصفقة لم يُعلن عنها بصورة رسمية وظلت تفاصيلها غير واضحة حتى ظهرت بطارية "تور أم" في إحدى تدريبات الدفاع الجوي المصري . وخلال زيارة مبارك إلى موسكو عام 2009 تم التوقيع على صفقة لبيع 24 مروحية من نوع "أم آي 17" إلى مصر تم تسلمها بالفعل عام 2010 وهذا قد يعد دليلاً على أن العلاقات التسليحية بين روسيا ومصر بدأت في التصاعد فعليا قبل ثورة 25 يناير.
روسيا ومصر بعد 30 يونيو
بعد ثورة 30 يونيو، أخذ التقارب المصري الروسي يأخذ منحى سريع الإيقاع. فبدأت الزيارات ذات الطابع العسكري بين البلدين تتصاعد. زار القاهرة رئيس الاستخبارات الروسية ثم وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ووزير الخارجية سيرغى لافروف، وهذه الزيارات اكتسبت أهمية مضاعفة. مهمتها الأساسية كانت إعداد الترتيبات لبدء مباحثات عسكرية موسعة بين مصر وروسيا لفتح بوابة التعاون العسكري بين البلدين على مصراعيها خصوصا وأن ضمن الوفد المرافق للوزير لافروف حضر رئيس الهيئة العسكرية للتعاون التقني وفريق كامل من خبراء شركة روس أوبورون لفحص احتياجات الجيش المصري خصوصاً على مستوى القوة الجوية.
وصلت هذه العلاقة إلى أقوى مراحلها حين زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى روسيا في آب /أغسطس الماضى وهى الزيارة التي قوبل بها بحفاوة كبيرة لم يسبق أن تم استقبال رئيس مصري بها منذ أخر زيارة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى موسكو . واستعرض الرئيس المصري عقب وصوله مباشرة عددا من القطع الحربية والمنظومات الروسية التي أحضرت خصيصا إلى المطار كى يستعرضها . خلال هذه الزيارة أتفق الرئيس المصري والوفد المرافق له مع الجانب الروسي على تزويد مصر بأسلحة نوعية عدة تساعد الجيش المصري في مواجهة ما يبدو انه بوادر تراجع واضح في العلاقات المصرية – الأميركية بشكل عام وبالأخص العلاقات التسليحية . ومن ضمن الأسلحة التي تم الأعلان عن قرب وصولها إلى مصر مقاتلات ميج 29 أم 2 ومنظومات عدة للدفاع الجوى من بينها "بانتسير وبوك أم، وتور أم، وصواريخ مضادة للدروع من نوع كورنيت بجانب مروحيات عسكرية مقاتلة".
روسيا وسوريا
قد تكون العلاقات التسليحية بين مصر وروسيا في أحسن مراحلها لا تقارن بالعلاقات نفسها بين روسيا وسوريا والتي ظلت مستمرة بوتيرة ثابتة منذ الخمسينيات وحتى الآن. مصر ونظرا إلى التحولات الاستراتيجية التى شهدتها أصبح جيشها فعليا مختلط التسليح ما بين التسليح الغربى والشرقى على عكس الجيش السورى الذى تتجاوز نسبة التسليح الروسي فيه 70 بالمائة. وعلى الرغم من أن الدعم الإيرانى للجيش السورى في المرحلة الحالية يعتبر حيوياً ومهماً، إلا أن طلعات الإمداد لطائرات النقل الروسية من طراز "اليوشن 76" لم تتوقف في الوصول إلى المطارات السورية خصوصا أثناء الحرب المستمرة على الأراضى السورية منذ أكثر من 3 سنوات والتي تساهم بشكل فعال في تعويض النقص المستمر في ذخائر الدبابات والمدفعية وقطع غيار الطائرات. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، بدأت روسيا منذ وصول السيسى إلى منصبه في اتباع سياسة متزامنة في المجال التسليحي بين مصر وسوريا. فبعد أن أوقفت روسيا تسليم سوريا منظومة الدفاع الجوى "أس 300" عادت ووافقت على تسليمها لمصر ولسوريا معا في بادرة تعتبر غير مسبوقة نظرا لأهمية هذه المنظومة التي ستتيح للبلدين تهديد العمليات الجوية الإسرائيلية فوق أجواء فلسطين المحتلة نفسها وتغيير موازين القوى التسليحية في المنطقة بشكل مؤثر.
كما أن الأحداث الجارية في مصر وسوريا تكشف عن تعاون مستمر ومتصاعد بين البلدين وروسيا. فمثلا تم اكتشاف وجود 3 مراكز مشتركة للتنصت والاستخبارات بين روسيا وسوريا على الأراضى السورية بعد دخول كتائب المعارضة المسلحة إلى أحد هذه المراكز في تل الحارة في درعا . كما ان صورا عديدة كشفت عن أنواع أسلحة لم يكن معروفا أمتلاك الجيش السورى لها مثل راجمات الصواريخ "أوراغان" وناقلات الجند المدرعة "بى تى ار 80" ومنظومة مكافحة الألغام "يو أر 77" والتي سبق للميادين أفراد تقرير عنها. الحال نفسه بالنسبة للجيش المصري الذى ظهر بشكل مفاجئ في عرضه العسكري بمناسبة ذكرى السادس من أكتوبر الجيل الثانى من منظومتى الدفاع الجوى "بوك أم" و"تور أم" المسمى "2". كما أن روسيا أعلنت في مرات سابقة عن قرب افتتاح محطة لصيانة المروحيات الحربية في مصر ومحطة لتمركز طائرات التزويد الجوي بالوقود الروسية من نوع "اليوشن 78" لدعم عمليات الاستطلاع الجوى بعيد المدى الروسية في البحر المتوسط وبالفعل تتمركز في مصر حاليا طائرتان من هذا النوع.
دعم روسيا لتقارب مصر وسوريا
فى الخلاصة نستطيع القول إن مصر وسوريا تعودان إلى التقارب يوماً بعد آخر على مستويات عديدة ولهذا شواهد كثيرة لعل أبرزها عودة التمثيل الدبلوماسي وزيارات لمسؤولين سوريين إلى القاهرة ووقوف مصر بقوة ضد أية محاولة لإعطاء مقعد سوريا في الجامعة العربية لأى طرف أخر . يبرز هذا التقارب مؤخرا في جانب التنسيق الأمنى والذى أثمر اعتقال عدد كبير من المقاتلين المصريين الذين عادوا إلى مصر بعد قتالهم في سوريا روسيا ترى هذا التقارب وتساعد فيه وتستفيد منه في دعم توجهاتها لإعادة نفوذها في المنطقة إلى سابق عهده وصد الهجمة الأوروبية على روسيا والتي تحاول أاختراق المجال الحيوى الروسي في شرق أوروبا. دعمها لسوريا ومصر ودفعها مصر في اتجاه القيام بدور سياسى يتم التمهيد له في سوريا لإنهاء أزمتها تماما يصب في خانة هدم أحلام الغرب في سوريا وقد يؤدي في النهاية إلى مشهد يكون فيه الغرب في وضع مماثل لوضع الاتحاد السوفييتي عشية الانسحاب من أفغانستان.