تتصدر تركيا بزعامة أردوغان قائمة الاهتمام الإقليمي بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، لمجموعة من الأسباب ليس أقلّها تردي العلاقات الأميركية ـ التركية في آخر عهد الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. لفتت تصريحات مساعدي ترامب عن أهمية خاصة يوليها الرئيس المنتخب لتحسين علاقات بلاده مع تركيا، وصولا حتى إلى تسليم الداعية الإسلامي المعارض فتح الله غولين إلى تركيا، وهو الذي تتهمه أنقره بتدبير الانقلاب الفاشل على أردوغان قبل شهور. وكانت لافتة أيضاً المكالمة الهاتفية التي جرت بين أردوغان وترامب عقب الإعلان عن فوز الأخير، ما يعني أن فترة الجفاء بين أردوغان وأوباما مرشحة للاختفاء في العصر الأميركي الجديد. ولأن تركيا دولة عضو في حلف «الناتو» وذات إمكانات اقتصادية وعسكرية متميزة في السياق الشرق أوسطي فهي أكثر من مهمة لأميركا، خصوصا مع مواهبها الجغرافية متعددة المحاور والإطلالات سواء على الشرق الأوسط أو تخوم روسيا أو أوروبا.
أوباما وأردوغان و «الربيع العربي» بينهما
ومع الكيمياء التي لم تعمل بين الرجلين في السنتين الأخيرتين، فقد عرف أوباما وأردوغان فترة ذهبية من التعاون تجلت وظهرت في الفترة الممتدة من العام 2009 وحتى العام 2013 و «الربيع العربي» بينهما. اختار أوباما تركيا لتكون منبره لمخاطبة العالم الإسلامي في بداية ولايته العام 2009، وبدا واضحاً أن أوباما يحمل رؤية للشرق الأوسط تلعب فيها تركيا أردوغان دوراً مركزياً. تموضعت تركيا في سياق دولي ـ إقليمي شرق أوسطي لتلعب دوراً مؤثراً وقائداً في التغيير الذي ضرب العالم العربي من خلال «الربيع العربي»، ثم تجييره لاحقاً لخدمة حركات الإسلام السياسي وخصوصاً جماعة «الإخوان المسلمين»، وصولا إلى تشكيل كتلة جغرافية متصلة من تونس وحتى سوريا تحت حكم الجماعة والقيادة التركية لمواجهة المحور الذي تقوده إيران إقليمياً.
في السنتين الأوليين لـ «الربيع العربي» كانت تركيا «المتردوتيل» وقطر «متعهد الحفلات» والجماعة «نجمة السهرات» والندوات والمؤتمرات الدولية بخصوص التغيير في المنطقة. بمعنى آخر كان توالي الأحداث في تونس ومصر وليبيا وسوريا مؤاتياً للتصورات الأميركية والتركية إلى أقصى حد. حققت تلك التطورات لأوباما أهم ما أراد الحصول عليه في فترتي ولايته، أي الانسحاب عسكرياً من المنطقة مع الحفاظ على المصالح الأميركية فيها عبر خلق توازن بين حلفين إقليميين يتواجهان ويحجم بعضهما بعضا من دون أن يقضي أحدهما على الآخر. كما حقق ذلك التطور لتركيا فوائد معلومة منها قيادة «المعسكر السني» في المنطقة بكلفة زهيدة، عبر التحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» في تونس وليبيا ومصر وغزة وسوريا، وخليجياً مع قطر المناط بها إسناد هذا التكتل مالياً وإعلامياً.
أبلى هذا التحالف بلاءً حسناً في السنتين الأوليين لـ «الربيع»، لكن تصورات الطرفين الأميركي والتركي تصادمت على الساحة السورية، حيث ذهبت تركيا بعيداً وبسرعة في معاداة النظام السوري بعد فشل محاولاتها في إعادة تشكيل السلطة السورية بمشاركة جماعة «الإخوان المسلمين»، وبوتيرة أسرع بكثير مما رغب أوباما وأرادت إدارته. تردد أوباما في مواجهة النظام السوري الذي تخطى تكراراً خطوط أوباما الحمر في الصراع، وزاد أردوغان من رهانه على جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا لتحقيق مصالح تركيا في سوريا والمنطقة. ومع إطاحة حكم الجماعة في مصر صيف العام 2013 فقد أصبح السياق الإقليمي المرسوم أميركياً، والذي تحركت فيه تركيا بأريحية في سنواته الأولى، من الماضي. وهنا ظهر الجفاء الموضوعي بين أردوغان وأوباما، قبل أن يتبدى الجفاء الشخصي بين الرجلين لاحقاً. بمعنى أن افتراق السياق وفقدان الدور التركي جعل العلاقات الثنائية الأميركية ـ التركية في مهب التطورات الإقليمية وعلى أكثر من صعيد.
ترامب والدور التركي الجديد
إذا أراد الرئيس الأميركي الجديد ترميم العلاقات الأميركية ـ التركية فعليه ليس فقط الانفتاح على أردوغان بشكل شخصي، وإنما إيجاد السياق والدور الجديد لأنقرة في المنطقة بالاستفادة من تجربة أوباما وأردوغان. وهذا الأمر يتأتى وفقاً لخطة عمل لا تقتصر على شخص الرئيس الأميركي أو إدارته؛ وإنما يمتد الأمر إلى مؤسسات أميركا السيادية ومفكريها الكبار. والدليل على ذلك أن مصطلح «الإسلام المعتدل» جرى طهوه بعناية على مدار سنوات طويلة في الجامعات (برنارد لويس في جامعة «برنستون» مثالاً) ومراكز الأبحاث الأميركية قبل أن يخرج لاحقاً في حلته التي تختبرها المنطقة منذ تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا قبل عقد ونصف (بالتحديد منذ استلامه السلطة في تركيا العام 2002). لم يعلن ترامب عن فريقه للسياسة الخارجية بعد، ناهيك عن اجتراح أميركا ومؤسساتها السيادية سياقاً جديداً تتمحور فيه تركيا. ومع ذلك يبدو تحسين العلاقات الأميركية ـ التركية بالمعنى الشكلي أمراً مرجحاً خلال الفترة القصيرة المقبلة، وربما حتى تقديم إدارة ترامب تنازلات تتعلق بالمعارض فتح الله غولين. وهي ستكون تنازلات قيمية أميركية إن حدثت، لكن تحسين العلاقات هيكلياً عبر خلق السياق يبدو أمراً غير وارد في هذه اللحظة التاريخية. من ناحيته، يعي أردوغان أن بضاعة «الإسلام السياسي المعتدل» غير قابلة للصرف عند ترامب، الذي يستخدم مصطلح «الإرهاب الإسلامي» من دون تفرقة واجبة بين تياراته، ولعل مستشاريه يقلّبون الأمر على جوانبه المختلفة لاستكشاف سياق جديد لتركيا وأردوغان. ربما كان الاصطفاف إقليمياً في مواجهة إيران هو ما سترسو عليه الأمور في النهاية، وهو ما سيتطلب من أردوغان تغليب مشاعر «السلطنة» على ميول «الأخونة»، ولعل الأداء التركي في سوريا خلال الشهور القليلة الماضية يجسد الثمن الذي يمكن لأردوغان البراغماتي أن يدفعه لقاء الدور الجديد في المنطقة.
السفير