تحرير الموصل من فلول "داعش" يحمل في أبعاده مأزق دول تحالف واشنطن الداعمة للإرهاب من أجل حماية النفوذ والمصالح الضيّقة. لكنه يحمل أيضاً ترجيح كفة المعادلات الإقليمية ــ الدولية الساعية لوقف الحرب والانهيار في العراق وسوريا على أساس عودة المنطقة إلى أهلها.
على الرغم من التشكيك الغربي الطويل في إمكانية دحر "داعش" وهزيمته في العراق أو سوريا وغيرها، تتحرر الموصل من فلول "داعش" بأقل خسائر ممكنة. ويكشف تحرير الموصل أن هزيمة الإرهاب في المنطقة هو في متناول اليد إذا توفرت سبُل المشاركة الشعبية في المواجهة على مستوى تمدّد الإرهاب في المنطقة وصولاَ كل بلد وناحية. والحقيقة أن هزيمة "داعش" في الموصل بدأت خطواتها الأولى أثناء استعادة حلب التي خطّت أسس تطوّر المعادلات الإقليمية في اتجاه دحر الإرهاب بمشاركة شعبية من القوى الحليفة.
وقت استعادة حلب في السنة الماضية، لم تبقَ صحيفة دولية مرموقة من دون الالتفات إلى رابط مع الموصل. فصحيفة "نيويرك تايمز" التي خاضت حملة الإدعاء بارتكاب مجازر في حلب، راحت كغريمتها "الواشنطن بوست" تحذّر مما سمته مخاطر السماح بمشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل، وذلك بذريعة منع ارتكابه "مجازر طائفية" متوقعة بحسب مزاعم تحالف واشنطن. والحال أن الحشد الشعبي خيّب مثل هذه المزاعم في حرصه على تقديم يد العون للسكان خلال معارك تحرير الموصل، لكنه خيّب كذلك حرث التحريض الطائفي الذي ألهب مخيال العداء لإيران وحلفائها على خلفية التلاعب الجيني بذاكرةالأهوال التي ارتكبها الغزو المغولي والصليبي في العراق وبلاد الشام.
في موسوعته بين أمهات الكتب، يؤرخ يزيد بن محمد الأزدي المعروف بالموصلي "تاريخ الموصل" العام 334 هجري كجزء من حواضر المنطقة الشاهدة على قلاع الممرات نحو الشرق الأقصى. وبينما ذكر شكسبير مدينة حلب دليلا على ثرائها في مسرحيته "ماكبث"، ذكرها مرة أخرى في مسرحية "عُطيْل" دليلا على تلاقي الثقافات ومن بينها الثقافات الايرانية والتركية والثقافات الأخرى الممتدة في المنطقة. وعلى هذا المنوال يؤرّخ الموصلي لنينوى التي تسمّت بالموصل كناية لها عن صلة الوصل بين هذه الممرات بين نواحي المنطقة البعيدة وكناية لها عن واسطة العقد مع حلب في تلاقي ثقافات المنطقة وتلاقحها. وعلى مرّ تاريخ العمران في بلاد الشام والرافدين، تزدهر الموصل مع حلب في انفتاح سكان بلاد المنطقة على بعضهم البعض ويدبّ الخراب في المدينتين ما أن تنغلق الشام والرافدين عن أرجاء بلاد المنطقة في قهرها على التسيّب بين وراء البحار وبين الصحاري اليباب.
هي المعضلة التي تخرج منها الموصل منتصرة على فلول "داعش"، في سياق استعادة حلب من الإرهاب. وفيما وراء هذا السياق مواجهة بين تغريب المنطقة في تبعيتها لنفوذ ومصالح دول "تحالف واشنطن"، أو تشريقها في الانفتاح والتعاون بين بعضها البعض لتوسيع الممرات الداخلية والتلاقح الثقافي المنسوج بعرق الأجيال السابقة متراكم على خيوط الدهر. فما ذكره نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس يوّضح ميدان هذه المواجهة بين التغريب والتشريق بعد الموصل على الحدود العراقية السورية. فهو يؤكد أن واشنطن نصبت منظومة صواريخ أرض ــ أرض لفتح طريق بغداد ــ عمان. وهو الخط الذي تراهن عليه واشنطن لربط بغداد والعراق بالتبعية لواشنطن وليس ربط بلدين عربيين مستقلين عن التبعية لواشنطن في انفتاحهما على بعضهما البعض وعلى أرجاء المنطقة.
وقد يكون خط بغداد ــ عمان في التصوّر الأميركي، ركيزة تفتيت العراق في السعي إلى إنشاء إقليم في الأنبار بوابته مثلث التنف على الحدود السورية ــ العراقية ــ الأردنية وقطع الطريق على سوريا والعراق. لكن أبو مهدي المهندس يؤكد من جهة أخرى أن طريق بغداد ــ دمشق باتت مفتوحة ومؤمنة وهو الخط الذي يرسم من تلعفر والحويجة في العرق ومن دير الزور والبادية في سوريا، المعادلات الإقليمية ــ الدولية ووجهة مستقبل المنطقة.