تحرير الجرود أبعد من معركة عسكرية؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
تحرير الجرود أبعد من معركة عسكرية؟

قد لا يشك أحد بأن معركة تحرير الجرود ستنتهي بتطهيرها من الجماعات المسلحة على الحدود بين سوريا ولبنان، لكن أبعادها ربما تتصل بحماية السلسة الشرقية لجبال لبنان المطلة على عمق الداخل الفلسطيني.

محاولة تنظيف الجرود من دون إراقة دماء لم تصل إلى خواتيمها المرجوّة، على الرغم من انعدام أي احتمال بأن تتمكن الجماعات المسلّحة في جرود عرسال والقلمون الغربية من البقاء أو كسب الوقت. فجماعة النصرة التي يقودها المدعو "أبو مالك التلّي" ترفض الانسحاب الآمن الذي يوفره لها الجيش السوري والمقاومة. وهي بذلك تعبّر عن الهوة الساحقة بين أخلاقيات القتال التي تحرص عليها المقاومة وبين أعراف القتل التي تمتاز بها الجماعات الإرهابية.. وشتّان في الحرب ما بين القتال والقتل.

من سمات مقاومة حزب الله في قتال العدو، أنها تتمتع بشراسة قتالية لا يضاهيها سوى أرقى الجيوش وأكثرها تدريباً وتضحية، بحسب العديد من خبراء الفكر العسكري، لكن هذه المقاومة هي كأرقى الجيوش في الأخلاقيات العسكرية، لا تهدر نقطة دم مجاناً في صفوف مقاتليها وفي صفوف أعدائها أيضاً.

في هذا السياق أحجمت المقاومة عن استكمال معركة تحرير الجرود في جولات سابقة، نظراً لكلفتها الباهظة في لحظة معيّنة لم تكن مؤاتية جداً، ونظراً إلى أن المقاومة كانت تتوقّع تغييراً ما لم يكن مؤاتياً وتعدّ له.

ما تغيّر بين معركة الأمس واليوم، هو الهزائم المتلاحقة التي تتعرّض لها الجماعات المسلّحة على المستوى العسكري منذ التحوّل الكبير في حلب وحتى استعادة الموصل، وما بينهما في الغوطة وتدمر والبادية.

لكن الهزائم على المستوى السياسي هي أشدّ وأدهى، فقد انقسم التحالف الداعم لهذه الجماعات على اختلاف مشاربها، إلى قسمين أو أكثر يقارع أحدهما الآخر في نفوذه وامتداداته، أي يقارعه في جماعاته. هذا على صعيد الجماعات المرتبطة بالسعودية من جهة وبقطر وتركيا من جهة أخرى.

وفوق هذه الضربة على رأس الجماعات المسلّحة، توقف الإدارة الأميركية الجديدة برنامج التمويل والتسليح لمعظم الجماعات التي كانت تسلحها إدارة باراك أوباما.

لعل قمة هذا الانحدار السياسي الذي يعصف بالجماعات المسلّحة، يتجسّد في انهيار مشروع الدول الإقليمية والدولية التي كانت تسمى "دول أصدقاء سوريا" لمراهنتها على إسقاط سوريا ومحور المقاومة، فهذه "اللعبة قد انتهت" بحسب وصف روبرت فورد عرّاب هذه اللعبة.

ومن مظاهر انتهاء اللعبة يمكن إدراج التفاهم الروسي - الأميركي على منطقة "خفض التصعيد" في الجنوب السوري، حيث تضمن موسكو ومن خلفها إيران ودمشق السيطرة على هذه المنطقة في إطار خفض التصعيد. وهذا يعني أن تمدّد الجماعات المسلّحة والدول الداعمة لها لا يمكن له أن يزداد بينما تبقى كل الاحتمالات ممكنة في يد الأطراف الأخرى للعمل على تقليصها.

في سياق هذه الاحتمالات الممكنة، يمكن أن تندرج معركة تحرير جرود عرسال وتلة المغرّ، معقل أبو مالك التلّي في القلمون الغربية. فالتفاهم الروسي - الأميركي هو مساومة سياسية وفق موازين القوى الميدانية ليس فقط في الجنوب السوري وحده أو في سوريا وحدها، بل أيضاً في الإقليم وأبعد من ذلك. فالقوى الراجحة في موازين القوى هذه التي تتألف من موسكو ودمشق وطهران والمقاومة، تسعى إلى تعزيز مواقعها في سوريا وفي الإقليم وفي منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري أيضاً.

تحرير الجرود يؤمن الامتداد الجغرافي - السياسي من اللاذقية إلى محيط حمص والبادية وحتى الغوطة حول دمشق، لكنه يؤمن حماية سلسلة جبال لبنان الشرقية وجبل الشيخ، في الإشراف الصاروخي على هضبة الجولان ومعظم شمالي فلسطين.

وفي هذا الصدد يمكن أن تذهب دعوات المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة "نيكي هايلي" لإزالة صواريخ حزب الله، هباءً منثوراً حال تحرير الجرود.

وفي هذا الصدد أيضاً تتبخر مساعي إسرائيل مع دونالد ترامب وايمانويل ماكرون، لإطلاق "مبادرة دولية" من أجل إزالة صواريخ حزب الله التي تهدّد إسرائيل.

وفي السياق لا يقتصر تحرير الجرود على الأبعاد العسكرية والسياسية. بل هو يتضمّن في طيّاته وفي أعماقة الهوّة الواسعة بين أخلاقيات القتال وبين أعراف القتل، فتحرير الجرود من قبل المقاومة ومحورها يتيح عودة الآلاف المؤلفة من النازحين والمهجرين إلى أراضيهم وأرزاقهم وإلى بيوتهم في حياة كريمة، فتتحرر إرادتهم من مخيمات الإذلال بتحرير الأرض.

ولعل الأهم من كل ذلك هو أن تحرير الجرود يحرر الأرض من مراهنات استيلاء بعض كبار المتمولين وبعض الشركات الأجنبية، بذريعة إعادة الإعمار أو ما شابه من ذرائع، وهو ما أصبح عادة متداولة في كل مكان يهجره أهله وتطول غربتهم.

قاسم عزالدين

قراءة 1469 مرة