القدس عبر ودروس

قيم هذا المقال
(0 صوت)
القدس عبر ودروس

انتصرت القدس، وكان انتصارها بفضل أهل القدس رجالاً ونساء وشيباً وشباباً، ولا فضل لأحد غيرهم في تحقيق هذا الانتصار.

هناك من ادّعوا أن جهودهم هي التي مهّدت لانتصار القدس، بينما لم تتعد تلك الجهود الاتصالات والبيانات والتصريحات في وسائل الإعلام. وكما هو معروف تاريخياً، للنصر آباء وأمهات كثر، والهزيمة يتيمة الأب والأم. أهل القدس وقفوا بشموخ وعزة وإباء وإصرار إلى أن وصلوا إلى النتيجة التي ارتضوها. وفي صمودهم وكفاحهم، نستخلص العديد من الدروس والعبر التي تفيدنا في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو التحرير والحرية. من هذه الدروس:

أن الأموال لم تلوث هبة أهل القدس لنجدة الأقصى، ونحن نعلم أن المال كان دائما مفسدة وألهى الناس بالطمع والاتهامات والاتهامات المضادة. من شأن المال أن يشعل التهم ويثير الضغائن والأحقاد، وينشط اللصوص والأوغاد. لقد بقيت الحركة المقدسية طاهرة ونجت من النقود التي أفسدت على الشعب تضحياته في كثير من الأحيان. هناك بالتأكيد من يقول إن المال ضروري من أجل كفاية المعتصمين والمرابطين والمرابطات احتياجاتهم اليومية من مأكل ومشرب وخلاف ذلك وهذا صحيح، وقد أدركت نساء القدس المسؤولية وعملن على تغطية كل ما يحتاجه المجاهدون من أموالهن الخاصة. لقد استنفرت نساء القدس، وشددن الهمم وطهون الطعام وقدمنه هنيئا للمعتصمين. وقدمن الشراب والدواء والماء، وفتحن بيوتهن للمتعبين والجرحى وأدخلن المسعفين ليقوموا بواجبهم. لم تطلب نساء القدس شكرا، ولم ينتظرن جزاء إلا من الله سبحانه وتعالى، وبذلك ضربن المثل الأعلى في الكرم والتضحية والسخاء. ومنهن نتعلم أن الدفاع عن الوطن لا ثمن له، وهو واجب مقدس.

في عمل نساء القدس المبارك ما يؤكد لكل الشعب الفلسطيني أننا قادرون على حمل بعضنا البعض، وإذا عزمنا على التكافل والتضامن فإننا لن نحتاج أموالاً من أحد، ولن نحتاج الطحين والسكر والأرز. دائما الاعتماد على الذات يقي الذات من المذلة، ويمنع الآخرين من التحكم بالإرادة السياسية. نحن اعتمدنا على أنفسنا في القدس، ولولا إجراءات الاحتلال القمعية لرأينا مئات الآلاف من الناس يتدفقون إلى الأقصى حاملين معهم كل ما يلزم من الاحتياجات اليؤومية للجميع. الشعب الفلسطيني معطاء ويتمتع بالانتماء وروح الالتزام ومشكلته فقط غياب القيادة القادرة على استثمار طاقاته وقدراته وتوجديهها ضد الاحتلال.

من ناحية أخرى، أبدى الشعب الفلسطيني وحدة وطنية شعبية راسخة وقوية في هذه الأزمة. لقد توحد الناس بجميع فئاتهم وأطيافهم ومللهم ومشاربهم في بوتقة واحدة تحت علم واحد وشعار واحد. لقد شاركت الفصائل الفلسطينية كما الأحزاب المختلفة والتنظيمات والجمعيات في هذا الجهد الكبير، ولم يتأخر أحد عن القيام بواجبه، ولم يكن المجال مفتوحا لتحويل الجمهرة الفلسطينية إلى جمهرات فصائلية تثير النعرات والخلافات. كانت الوحدة الوطنية حقيقية تؤكد العمل الجماعي والتعاون المتبادل والاعتماد على الذات. حتى أن مسيحيين أدوا الصلاة مع المسلمين تضامناً مع الأقصى، وكان من المفترض وفق بعض وسائل الإعلام أن تخرج مظاهرة يوم الجمعة الفائت من كنيسة القيامة إلى المسجد الأقصى دعماً للمسلمين. وسبق للمسيحيين ان وضعوا كنائسهم تحت تصرف المسلمين إن أدت الظروف إلى انقطاعهم عن المساجد. وقد ظهر للعيان أن الخلافات على الساحة الفلسطينية غير مقبولة جماهيرياً وأن السياسيين هم الذين يوقعون الخلافات بين الناس وهم الذين يسببون الصدام والبغضاء والاقتتال. فهل يتعلم قادة الفصائل وقادة السلطة الدرس من الناس؟

ومن الدروس المهمة أن الشعب الفلسطيني يتوحد عند الأزمات وفي الأوقات التي تتطلب مقاومة عنيدة. تاريخياً، الشعب الفلسطيني كان يطور العمل الجماعي والتعاون المتبادل حين يصطدم بالعدو، وكان ينفرط عقده ولو جزئياً عندما يسترخي ويستكين للوضع القائم. استكان الشعب الفلسطيني على مدى سنوات بسبب الاتفاقات مع الصهاينة، لكنه الآن يدرك أن تلك الاتفاقات كانت وبالاً عليه، وأن لا وطن له دون التصدي والمقاومة.أدرك الشعب الفلسطيني الحقيقة والأخطار المترتبة عليه جراء اتفاق أوسلو وملحقاته، ويبدو أن القيادات الفلسطينية ذات استيعاب وإدراك أقل من المستوى الذي يتمع به الشعب.

وبعد هذا الانتصار ما هو المتوقع؟ يجب ألا يطمئن الفلسطينيون للوضع الذي استجد، لأن الصهاينة غدارون ومتآمرون، وهم بالتأكيد يعكفون على دراسة الأوضاع وتحضير مثالب جديدة للشعب الفلسطيني بهدف إحباطه من جديد وحرمانه من مشاعر القوة والعزة التي اجتاحت كل أوساطه. يجب أن يبقى الشعب مستنفراً ومفتوح العيون والآذان حتى لا يؤخذ على حين غرة. وللشعب درس لا بد أن يتعلّمه الجميع، بخاصة الشباب والشابات، وهو أننا إذا استطعنا أن نصنع أزمة عقب كل إجراء تعسفي يقوم به الصهاينة ضدنا فإننا سنستمر في حشر الكيان الصهيوني في زاوية لا يخرج منها إلا بالتراجع. وكلما تراجع وانخفضت معنوياته ارتفعت معنوياتنا نحن وكسبنا المزيد من الشعور بالقوة والتلاحم.

وما دامت القيادات لا تريد أن تدرك واجباتها ومسؤولياتها، فإن الشعب الفلسطيني أمام مهمة كبيرة وهي إفراز قيادة جديدة تتمكن من حشد الطاقات وتجميع القدرات، لتحقق نصراً مؤزراً على الاحتلال وأعوانه من العرب وأهل الغرب.

عبد الستار قاسم

قراءة 1422 مرة