أتت استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية، والبيان التصعيدي الذي تلاه من المملكة العربية السعودية، والذي اتهم فيه حزب الله بمحاولة اغتياله، وتوعد "ببتر أيدي ايران في المنطقة"، لتعيد الأنظار الى الساحة اللبنانية وتسلط الضوء على حزب الله ونفوذه، خاصة بعد الترحيب الإسرائيلي بالاستقالة ودعوة نتنياهو العالم إلى احتواء قوة هذا الحزب.
بالتأكيد، وكما يشير العارفين والمحللين على حد سواء، كان البيان الذي قرأه الحريري بيانًا سعوديًا، صيغ بيد سعودية ومفردات خليجية غير لبنانية، وحتى لغة جسد رئيس وزراء لبنان وتصرفاته في اليومين السابقين للبيان لم تكن تشير إلى أي من الهواجس التي طرحها حول اغتياله، ولا إلى الاستياء العارم الذي سيق في البيان من نفوذ حزب الله، ما يعني أن البيان عكس استياءً سعوديًا وتحريضًا واضحًا ضد حزب الله، وهو ما انعكس في تصريحات المسؤولين السعوديين قبل وبعد البيان ومنهم وزير الدولة السعودي ثامر السبهان.
وقبل التصعيد السعودي ضد حزب الله، كان الكونغرس الأميركي قد فرض عقوبات قاسية على حزب الله ودعا الأوروبيون إلى إدراجه على لائحة الارهاب، فلماذا حزب الله بالتحديد؟
بالتأكيد يرتبط التصعيد ضد حزب الله بعلاقة الحزب الموضوعية والعضوية بإيران، وباعتبار البعض بأنه ذراع إيرانية في المنطقة، كما يرتبط بالصراع مع إسرائيل والنتائج التي حققها حزب الله في المعارك العسكرية ضد الاحتلال، كما الردع الذي حققه ضد إسرائيل في معادلات فرض القوة في المنطقة، وبكونه بات مصدرًا للإلهام للمقاومات في الشرق الأوسط وفي العديد من مناطق العالم التي تحاول تحدي الهيمنة والإمبريالية.
لكن، قد يكون هناك ما هو أبعد من هذا أيضاً، وهو مرتبط بدور حزب الله في سوريا وصولاً إلى العراق، والحدود بين البلدين بالتحديد.
أطلق الفكر الاستراتيجي في القرن العشرين على المنطقة الممتدة من إيران إلى لبنان، اسم "قوس الأزمات". ونظرية قوس الأزمات تعني المنطقة الجغرافية المحكومة دائمًا بالأزمات بسبب وقوعها في منطقة تنازع نفوذ قوى كبرى، ولعل الأصعب حين تكون تلك المنطقة واقعة في منطقة تجاذب نفوذ بين قوى بحرية كبرى وقوى برية كبرى. وتختلف منطقة قوس الأزمات عن المناطق الاستراتيجية الأخرى، بأن الدول الصغيرة في هذا القوس لها أهميتها، فانتقال دولة - مهما كان حجمها وأهميتها- من محور نفوذ إلى محور آخر، يستطيع أن يعدّل في موازين القوى القائمة، لذا تكون كل الدول في هذا القوس محورية في الصراع ولا تعتبر هامشية مهما صغرت جغرافيتها.
وتؤكد النظريات الاستراتيجية التاريخية الأقدم، أن مركز الثقل في منطقة الشرق الأوسط هما بغداد ودمشق، اللتان تنازعتا قيادة الشرق الأوسط لقرون خلت، وإن القوة التي تستطيع السيطرة على العاصمتين تحكم الشرق الأوسط بلا منازع. وهذا هو السبب الذي جعل كل من الدولتين الاستعمارتين بريطانيا وفرنسا، تتقاسمان العاصمتين بعد سقوط الامبراطورية ولم تعطَ السيطرة لأي منهما.
من هنا، يبدو واضحًا أن الهجمة على حزب الله، قد تكون مرتبطة بدور جديد يقوم به في المنطقة، وهو وصل العراق بسوريا وقتاله للسيطرة على الحدود العراقية السورية، وخاصة بعد ما أدرجته التقارير الميدانية الواردة من البادية السورية بأن حزب الله استطاع - ومن خلال استراتيجيته للذهاب للقتال في البادية بعدما قام بتأمين الحدود اللبنانية السورية- تأمين وصل الحدود العراقية السورية بعمق خمسين كيلومتراً عرضاً خارج المعابر الرسمية بين البلدين، التي يتمّ السباق للسيطرة عليها اليوم.
من هنا، يمكن فهم التزامن بين الخطاب الذي قرأه الحريري وتحرير معبر القائم العراقي بواسطة الحشد الشعبي وتحرير مدينة البوكمال السورية، وقبله سيطرة القوات العراقية على معبر فيشخابور الاستراتيجي الواقع على مثلث العراق - تركيا - سوريا، وهو المعبر الوحيد لأكراد سوريا إلى الخارج، ومدى تأثير ذلك على قدرة حلفاء أميركا في سوريا على الصمود في حال قرر الجيش السوري تحرير الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بعد التفرغ من قتال داعش.
إذًا، تحوّل حزب الله إلى قوة إقليمية مقاتلة، ضمن محور إقليمي في عواصم ثلاث من منطقة قوس الأزمات الشرق أوسطي، ومدى تأثير ذلك على الصراع الدولي والإقليمي في الشرق الأوسط هو ما يخشاه تحالف واشنطن، لكن محورية الحزب هذه في الصراع هو ما يمنع استفراده أيضًا، وهو ما يمنع أي حرب إسرائيلية على لبنان في هذه المرحلة.