أدركت واشنطن خطورة الخيار العسكري مع الحشد الشعبي وفشله، والقوّة العراقية الاستراتيجية تعد اليوم معضلة رئيسية لمراكز القرار الأمريكي.
ولعل القناعة بفشل الخيار العسكري، لاسيّما بعد فشل المشروع الأمريكي في تقسيم العراق والذي كان لهذه القوّات "حصة الأسد" في درئه عن بلاد الرافدين، دفعت بواشنطن لاستخدام مسار آخر عنوانه "الاحتواء".
فقد نشرت عدّة معاهد أمريكية تقارير حول مصير الحشد الشعبي في العراق (معهد ستراتفور، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، معهد بروكنجز). التقارير الثلاثة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ركزت على ضرورة احتواء الحشد الشعبي بدلاً من المواجهة معه، لاسيّما في ظل القدرات النوعية التي يمتلكها الحشد، وبصمته الكبرى في الانتصار على تنظيم داعش الإرهابي.
وفي حين أصدر معهد بروكنجر ورقة بحثية تحت عنوان احتواء "الميليشيات الشيعية: المعركة من أجل الاستقرار في العراق"، كتب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مقالاً تحت عنوان "تعزيز قوات الأمن العراقية"، للكاتبين الأمريكي مايكل نايتس المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران والدول الخليجية، والعراقي إسماعيل السوداني والعميد الركن الذي شغل منصب الملحق العسكري في الولايات المتحدة في الفترة بين 2007 و 2009.
المشروع الأمريكي الجديد يهدف لصهر قوّات الحشد الشعبي في مختلف الوزارات والمؤسسات العراقية عبر محاولات الإغراء والدعم، وبالتالي سلب العراق قوّة استراتيجية لعبت دوراً رئيسياً في القضاء على داعش وإعادة هيبة العراق، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط:
أوّلاً: أدركت واشنطن ان لا جدوى من الدخول في مواجهة مباشرة مع الحشد الشعبي صاحب البصمة الكبرى في مواجهة داعش، والأكبر في اسقاط مشروع بارزاني الانفصالي. فرغم إدراك واشنطن وجود بعض الأصوات العراقيّة المناوئة للحشد لأسباب مختلفة، إلا أنها في الوقت عينه تدرك حجم الدعم الشعبي لهذه المؤسسة، سواءً الدينية، السياسية والشعبيّة.
ثانياً: ولعل دخول واشنطن في مواجهة مباشرة مع الحشد الشعبي سينعكس سلباً على المشروع الأمريكي في القضاء على الحشد، سواءً لصالح خسارتها جزءاً كبيراً من الدور السياسي الذي تمتلكه في العراق، أو لناحية الدعم الشعبي لهذه القوّات التي واقف مجلس النواب بأغلبيته الساحقة على قانونها في الأشهر الماضيّة.
ثالثاً: لذلك يبدو أن واشنطن انتقلت من مرحلة الهجوم العسكري على الحشد الشعبي، إلى مرحلة الهجوم الناعم عبر محاولة احتوائه. فقد أظهرت أحدث التقارير الأمريكية نيّة واشنطن صهر الحشد الشعبي في الوزارات العراقيّة المعنيّة في مرحلة ما بعد داعش. على سبيل المثال جاء في تقرير معهد واشنطن "واليوم، لا بدّ من تفكيك قوات الحشد الشعبي" بطريقة مماثلة ودمجها في القوات العسكرية التي تشرف عليها وزارتا الداخلية والدفاع وجهاز مكافحة الإرهاب". ويضيف الكاتب "وتضمّ "قوات الحشد الشعبي بعض أفضل الجنود العراقيين الذين يستحقون دعماً لا يمكن أن تقدمه سوى هذه الوزارات، مثل التدريب والخدمات الطبية ومعاشات التقاعد العسكرية الخاصة بالإسكان، بالإضافةً إلى الحصول على مساعدات دولية."
رابعاً: شاهد آخر على محاولات الاحتواء هو ما ورد في التقرير نفسه حول "الدمج". ينص تقرير المعهد الأمريكي: إن "دمج عناصر "قوات الحشد الشعبي" في الجيش كأفراد وليس كوحدات كاملة هو الوسيلة الوحيدة لضمان محافظة الدولة على سيطرتها الدائمة على هذه القوات. وبعدها ينتقل التقرير إلى مسألة دمج الأسلحة تحت ذريعة "التوحيد اللوجستي المقترح للعام المقبل" فيقول: "وبالمثل، ليس من المنطقي أن تواصل "قوات الحشد الشعبي" حمل أسلحة ثقيلة مثل الصواريخ المدفعية، والصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، والبنادق عديمة الارتداد، والآليات المدرعة. ولا بدّ من سحب هذه المعدات على الفور وإعادة توزيعها بين الوزارات القائمة في إطار "قوات الأمن العراقية" كجزء من التوحيد اللوجستي المقترح للعام المقبل".
خامساً: وأما معهد بروكنجز فقد كتب في التوصيات التي قدّمها "احتواء الميليشيات بدل إزالتها" كونه "لا يمكن هزيمة الميليشيات الشيعية في العراق عسكرياً"، كما ورد في نص الورقة البحثية. وتضيف الورقة في الخاتمة: ينبغي على صانعي السياسات الأمريكيين والدوليين أن يركّزوا على الجهات الفاعلة التي تتصوّر في توجّهاتها مؤسسات تعدّدية غير طائفية وتهدف إلى بنائها. وتشمل هذه الجهات الميليشيات الشيعية المتحالفة مع الدولة حتى لو حافظت في المستقبل القريب على بعض من الاستقلالية عن الدولة. فمع الدعم الدولي يمكنها أن تضيّق المساحة التي تنشط فيها نظيراتها المعادية لها.
سادساً: هذه المشاريع ليست بالجديدة على حركات المقاومة. الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك سعى مع الرئيس الحريري الأب إلى محاولة صهر حزب الله في الدولة اللبنانية عبر مناصب سيادية، ولكن الحزب لم يسر في مشروع شيراك، وكانت النتيجة معاكسة تماماً للتوقعات الغربية. لم يقترح شيراك دمج الحزب في الجيش اللبناني، كما في حالة الحشد، بسبب التركيبة الطائفية للجيش التي لا تسمح بدخول هذا العدد من طائفة معيّنة إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية.
في الختام، ما فشلت واشنطن في الحصول عليه بالحرب، ستسعى للوصول إليه بالسياسة، وبالتالي لا بد للعراقين من توخّي الحذر، لاسيّما في الانتخابات المقبلة التي تعوّل كل من أمريكا والسعودية على نتائجها كما جاء في توقعات معهد ستراتفور لعام 2018.