من ضمن السيناريوهات التي تتّبعها الإدارة الصهيونية الأميركية التواطؤ سراً مع أردوغان في عدوانه على الأراضي السورية، وخرقه المفضوح لاتفاقات أستانة، التي هو جزء منها وضامن لها على الورق. ولكن ما لا يحسب له حساب المسؤولون الأميركيون هو أن فلولاً من الغزاة، وعلى مدى قرون، قد لقوا حتفهم على أرض سوريا المقدّسة الطاهرة، وأنّ عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء.
أرجو من القرّاء الأعزاء عدم الاهتمام بعد اليوم بما يصدر من بيانات وتصريحات عن ممثلي حكومة الولايات المتحدة بشأن سوريا أو فلسطين أو أيّ دولة عربية، وأرجو الاستعاضة عن ذلك بمراجعة ما فعلته الولايات المتحدة بحقّ الدول والشعوب منذ حرب فييتنام حتى اليوم. فهل كانت الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة في أيّ بقعة من الأرض تسعى إلّا إلى الاستيلاء على مصادر الثروات أو أماكن جغرافية حيوية، كما يسمونها، أو موقع استراتيجيّ يصبّ في خانة تعزيز هيمنتها على العالم؟!
أمّا ما يصدر عن وسائل إعلامهم من حرص على حقوق الإنسان وحريات الشعوب فهو فقط لذرّ الرماد في العيون، والتعمية على الأعمال الوحشية والجرائم التي يرتكبونها بحقّ البشر في مناطق مختلفة من العالم.
فهل هناك اعتراف رسمي أميركي أوضح عن علاقتهم بداعش من أن يصف مسؤول أميركي قتل جنود سوريين على أرض سورية يحاربون فلول داعش، بأنهم يمثّلون خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأن يصف محاولاتهم تحرير بئر "العذبة" النفطيّة من براثن الإرهاب بأنها عدوان تصدّت له قوات التحالف، فأزهقت أرواح العشرات من المقاتلين ضدّ الإرهاب وهم في اشتباك مع إرهابيي داعش. لقد ثبت اليوم، وبالعين المجرّدة ومن دون أدنى شكّ، أنّ الولايات المتحدة قد أتت بقوّاتها وسيطرت على جيب في محيط التنف لأسباب ثلاثة: الأول، هو حماية ما بقي من فلول الإرهابيين، الذين نظمتهم وسلّحتهم وموّلتهم عبر عملائها الإقليميين، بحيث مثّلت مظلة سياسية وغطاءً عسكرياً لهم يمنع من أن يطاولهم أحد.
والثاني، هو أن تستخدم هؤلاء الإرهابيين مع المتواطئين معها من حكّام الخنوع العربي لإحكام السيطرة على آبار نفط سوريا ونهبها كما تنهب نفط العراق ونفط ليبيا منذ سنوات تحت ذرائع وعناوين واهية لا يصمد أيّ منها أمام المنطق السليم. والهدف الثالث هو قطع التواصل بين سوريا والعراق، وإحداث الجيب الإرهابي – الأميركي في وجه هذا التواصل بين البلدين الشقيقين، الذي عملت الولايات المتحدة، منذ عشرات السنين على الحيلولة دونه، ذلك لأن التواصل والتنسيق بين سوريا والعراق يخلقان كتلة بشرية وحضارية ومصادر مادّية تمثّل قوة عربية لا يُستهان بها في وجه العدوّ الصهيوني. لقد كانت سوريا والعراق من ضمن الدول العربية التقدمية التي كان يعوَّل عليها في النصف الثاني من القرن الماضي لتكون الجبهة الحقيقية في وجه الكيان الصهيوني، إلى أن نجحت السياسات الأميركية في استهداف هذه الدول جميعها بذريعة أو بأخرى بمساعدة عملائها من الحكام العرب.
وحين وجدت أن قوات الجيش العربي السوري تكاد تحرّر الحدود مع العراق، تمركزت القوات الأميركية، وتحت جناحها ما بقي من فلول الإرهابيين والمرتزقة لتحقق أكثر من هدف في وقت واحد. كما أنّ هذا الحضور الأميركي يعدّ حجر عثرة في وجه الدعم الشرعي الروسي لسوريا، وكي لا تنسى روسيا أن الولايات المتحدة لن تغادر الساحة وتسمح لروسيا بأن تسجّل انتصاراً في سوريا مع الجيش العربي السوري وجبهة المقاومة المؤلفة من إيران والعراق وسوريا وحزب الله ضدّ الإرهاب والهيمنة. وفي الوقت نفسه تعمل إدارة ترامب الصهيونية على تسريع الخطى لتأهيل الكيان الصهيوني ليكون القوة الضاربة في المنطقة، بعدما كشفت بعض دول الخليج (الفارسی)عن الدور السريّ الذي كانت تؤديه على مدى عقود ضدّ الحقوق والمصالح العربية، بما فيه توفير القواعد لشنّ الحروب على العرب، وجاهرت الآن بولائها لهذا الكيان، كما جاهر الخونة من كلّ الدول العربية تحت مسمّيات مختلفة بزيارة هذا الكيان.
لقد كان الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي الداعم الأساسيّ لحركات التحرّر العالمية والدول التي تقع تحت عدوان أميركي عسكري أو سياسي، كما كان حال فييتنام أو كوبا على سبيل المثال، ولذلك فقد سعت دولة الاستخبارات العميقة التي تتحكم في العملية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، وبمختلف الوسائل، وعلى مدى عقود الى تفكيك هذا الاتحاد، والاستفراد بالهيمنة على الشعوب ونهب ثرواتها. واليوم، وبعدما بدأت روسيا الاتحادية، وإلى حدّ ما الصين، باتخاذ مواقف في مجلس الأمن لدعم حقوق الشعوب، وممارسة حقّ الفيتو أكثر من سبع مرات لردع العدوان الغربي على سوريا، على سبيل المثال لا الحصر، تعمل الولايات المتحدة جاهدة لاحتواء مزدوج لقوات الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة، وللتشكيك في قدرة القوة العسكرية الروسية من جهة أخرى. ومن هنا نفهم إسقاط طائرة "سوخوي" سورية بسلاح أميركي نوعي، والتصدّي لكلّ ما تفعله روسيا من أجل التوصّل إلى حلّ سياسي للحرب على سوريا.
ومن ضمن السيناريوهات التي تتّبعها الإدارة الصهيونية الأميركية التواطؤ سراً مع أردوغان في عدوانه على الأراضي السورية، وخرقه المفضوح لاتفاقات أستانة، التي هو جزء منها وضامن لها على الورق. ولكن ما لا يحسب له حساب المسؤولون الأميركيون هو أن فلولاً من الغزاة، وعلى مدى قرون، قد لقوا حتفهم على أرض سوريا المقدّسة الطاهرة، وأنّ عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء. فروسيا اليوم قوّة دولية وقطب أساسي صاعد، ولن تتمكن كلّ أساليب وجرائم الولايات المتحدة من إعادته إلى الوراء.
كما أنّ تحالف المقاومة بين لبنان وسوريا والعراق وإيران أصبح أمراً واقعاً وبالغ الأهمية، ولن يستطيع الكيان الصهيوني أن يفتّ من عضد هذا التحالف مهما بلغ شأن الجنون الصهيوني الأميركي في سبيل تحقيق ذلك.
لقد انكشف المستور فعلاً وأيقنت شعوبنا حجم النفاق الذي يمارسه الغرب، وسقطت ورقة التوت وأصبحنا نراهم بالعين المجرّدة قوى استعمارية استكبارية كلّ هدفها نهب ثروات الشعوب وسحقها وظلمها واستعبادها، ولكنّ هذا أصبح من الماضي، ولن يكون ممكناً بعد اليوم لا في سوريا ولا العراق ولا فلسطين ولا تونس أو ليبيا أو اليمن، وما إسقاط الطائرة الصهيونية المعتدية على الأراضي السورية على يد قوات دفاع الجيش العربي السوري إلّا برهان أكيد على أنّ قوى المقاومة لن تسمح للعدوان بأن يمرّ، وأنّ كلّ التمظهر الدولي لتصفية الصراع العربي – الإسرائيلي لمصلحة الكيان الصهيوني ناجم عن عدم إيمان بعض العرب بقضاياهم وعن تشرذمهم، وليس ناجماً عن قوّة صهيونية لا تُقهر. إذا كانت الأمور بخواتيمها، فإنّ خاتمة ما سمّوه ربيعاً عربياً ستكون ولادة هذا الحلف المقاوم، الذي سيخطّ تاريخاً تحرّرياً ومشرّفاً لكلّ أبنائه وأحفاده يكذّب بالوقائع والميدان أوهام التوسّعية الاستعمارية.
بثينة شعبان