من الواضح أن براغماتية أمريكا تشاطر براغماتية تركيا في التعاطي مع الكرد، وبين البراغماتيتين تبقى الأخيرة في موقع لا تحسد عليه، وكأنها "مغضوب عليها" من هذا العالم، قد يكون ذلك صحيحاً، وقد يكون أسلوب تعاطيها مع المحيط وفشلها في انتقاء شريك جيد يدعمها ويحمي لها مصالحها سبب آخر؛ ابحث عن واشنطن وستجد مصير حلفائها مجتمعين وكمية الخذلان الذي يحلّ بهم في أحلك الظروف، الأكراد نموذج حيّ عمّا نتحدث.
ماذا يجري الآن في الشمال السوري
تتجه الأمور في الشمال السوري وبالتحديد في منطقة "منبج" نحو بزوغ اتفاقية جديدة يكون فيها الأكراد "كبش الفدا" كما يحدث عادة، والهدف إعادة بعض المياه إلى مجاريها فيما يخصّ العلاقات الأمريكية - التركية، ففي يوم أمس الثلاثاء أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، أن الاتفاق مع أنقرة بشأن مدينة منبج السورية ينصّ على سحب وحدات حماية الشعب من المدينة إلى شرق الفرات.
وذكرت قناة "الحرة" الأمريكية أن الاتفاق مع أنقرة بشأن مدينة منبج السورية ينصّ على سحب وحدات حماية الشعب من المدينة إلى شرق الفرات، وكانت وحدات حماية الشعب أعلنت في وقت سابق اليوم سحب مستشاريها العسكريين من مدينة منبج، مشيرة إلى أن ذلك بعد "إتمام مهامها في تقديم العون والتدريب لمجلس منبج العسكري"، وعقد التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" يوم أمس الثلاثاء، اجتماعاً "سريّاً" مع مجلس منبج العسكري، حول التطورات الأخيرة التي تجري في المنطقة، وعملية سحب المستشارين العسكريين لوحدات حماية الشعب من المدينة.
الغاية الأولى من هذا الاتفاق هي تحقيق المصالح الأمريكية قبل تحقيق مصالح أي طرف آخر، ولكي يتحقق ذلك لا بدّ من تحريك ورقة الأكراد وتقديم بعض التنازلات للتركي من خلال الأكراد أنفسهم، والذين يشكّلون اليوم بالنسبة لها حصان طروادتها الأخير في سوريا، والذي يمكن تحريكه في أي وقت ضد الحكومة السورية أو ضد الأتراك، ولذلك لن تتخلى واشنطن عن الأكراد تحت أي ظرف، لأن خروج الأكراد من تحت عباءتها يعني خروجها من دائرة السيطرة في الشمال السوري، وبذلك تصبح خارج أي معادلة سياسية قادمة.
الاتفاق الجديد
عقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الاثنين الفائت مباحثات مع نظيره الأمريكي بومبيو بمقرّ وزارة الخارجية الأمريكية في العاصمة واشنطن، استغرقت حوالي ساعة، وتركزت بشكل كبير على وضع خارطة طريق حول منبج، وفق مصادر دبلوماسية تركية.
وكشف وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو عن تفاصيل الاتفاق التركي الأمريكي فيما يخصّ مستقبل مدينة منبج شمال سوريا، وقال أوغلو إنه "سيتم نزع سلاح تنظيم "ي ب ك/بي كا كا" أثناء انسحابه من مدينة منبج، شمال سوريا"، في تعليقه على خارطة الطريق التي جرى التفاهم فيها مع واشنطن.
وفي تصريحات صحفية أدلى به من ولاية "أنطاليا" (غربا)، الثلاثاء، ونقلتها وكالة الأناضول التركية الرسمية أوضح أوغلو: "سيتم نزع السلاح من التنظيم (ي ب ك/بي كا كا) أثناء انسحابه من منبج، وستنتهي العملية بالتزامن مع انتهاء انسحاب عناصره"، وأكد أنه لن يكون هناك دور لأي دولة ثالثة في "منبج" بما في ذلك فرنسا وبريطانيا وبلجيكا.
وتابع: "خطواتنا التي سنتخذها (في منبج) مهمة من أجل مستقبل سوريا وفرصة لإعادة علاقاتنا المتدهورة مع أمريكا إلى مسارها؛ لذا يجب تنفيذ الخارطة بالكامل"، وأردف قائلاً: "سنقوم بتطبيق خارطة الطريق في منبج وعقب ذلك سنباشر بتطبيقها في مدن أخرى، وعندها سيتضح الموقف الأمريكي"، وبخصوص لقائه نظيره الأمريكي، مايك بومبيو، أضاف: "يتضمن اتفاقنا تطبيق نموذج منبج بعد إتمامه في المناطق الأخرى التي يسيطر عليها التنظيم (ي ب ك/بي كا كا)".
وبهذا يكون أوغلو قطع الطريق على فرنسا الطامحة لإعادة أيامها الذهبية في زمن السيطرة على سوريا وعدة دول أخرى، وفي نفس الوقت تكون تركيا بددت مخاوفها مبدئياً من وجود الأكراد على حدودها وأبعدت خطر تشكيل فيدرالية كردية عن كاهليها، والأمريكي يعرف جيداً كيف يدير هذه اللعبة ومتى يحركها عند اللزوم.
الخطة الأمريكية
الأمريكي له غايات تقسيمية في المنطقة، كما يبحث للوصول إليها عبر دعم الإرهاب من جهة والتظاهر بمكافحته من جهة، ودعم الأكراد من جهة أخرى، لكي يتمكن من تقسيم المنطقة وبذلك يمكنه السيطرة عليها بسهولة، وكان هدفه منذ اليوم الأول إسقاط النظام في سوريا، وهذا سبب التقاطع مع التركي منذ بدء الأزمة، وبعد فشل هذا السيناريو الأمريكي-التركي-الخليجي تسعى أمريكا للانتقال إلى مسألة تقسيم البلاد، وهذا ما ترفضه كل من تركيا وسوريا على حد سواء بسبب الأكراد.
بعد مسألة الأكراد في العراق وفشل سيناريو التقسيم لم تتراجع أمريكا رغم أنها أظهرت وقوفها إعلامياً إلى جانب العراق، ولكن التقارير الأمريكية الصادرة عن معهد واشنطن والعديد من مراكز الدراسات توصي بضرورة أن يكون الجانب الأمريكي هو الوسيط في المفاوضات بين بغداد وأربيل للإمساك بزمام الأمور وانتهاز أي فرصة مواتية لتقسيم البلاد، هذا ما تريده اليوم أمريكا أيضاً في سوريا.
تدرك واشنطن أن مسألة الفيدرالية حالياً معقدة جداً، وتدرك عدم قدرة الأكراد على الوقوف في وجه الأتراك تماماً كما حصل في عفرين، وبالتالي تسعى لأن تكون في الوسط ظاهرياً رغم أنها في الواقع تسعى لتحقيق الأهداف الكردية نظراً لتقاطعها مع أهدافها.
في المقابل تركيا ليست بالدولة الساذجة سياسياً، وبالتالي تستخدم الأسلوب الأمريكي نفسه اليوم في التقدم ببطء، إلا أن تجربة أردوغان خلال السنوات السبع الماضية تؤكد عدم اقتناعه بأنصاف الحلول خاصة فيما يتعلّق بالجانب التركي، وبالتالي فإن كلا الطرفين ينتهزان الفرصة للانقضاض على الشمال السوري.