يُعدّ الأردن بسبب اقتصاده الضعيف وجهة أساسية للمساعدات الأجنبية وقروض المؤسسات الدولية وأموال الحلفاء، واعتماد الأردن على المساعدات والمِنَح والقروض سمحَ لدول مجلس التعاون الخليجي، بدفع الأردن إلى الاصطفاف بشكلٍ علني وأكبر مع سياساتها الخارجية المعارضة، وعلى الرغم من توقّعات حصول الأردن على وعود بالمساعدات من الحلفاء التقليديين على المدى القريب، إلا أن الحل لن يكون سوى بإصلاح اقتصاد المملكة الذي يعاني خللاً واضحاً وهيكلياً.
وفي ما يتعلق بدول مجلس التعاون الخليجي، فقد ركب الأردن أجنحة الصعود الخليجي في وقت مبكر، بل أنه فكّر في الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي أثناء الربيع العربي، إلا أن هذه الدول ربطت مساعداتها بمشاريع محدّدة، والأردن يعي تماماً نقطة ضعفه ويعرف أن عليه أن يقدّم تنازلات ليحصل على هذه المساعدات من حلفائه الأغنياء، وهذا بالنسبة إلى الإمارات والسعودية خصوصاً، يشمل اصطفافاً علنياً وواضحاً وبصورةٍ أكبر إلى جانب توجّهاتهما في المنطقة وحملاتهما الداعية إلى مواجهة المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط.
الأردن يناضل من أجل التوصّل إلى استراتيجية للبقاء في ظلّ المحور الأميركي الإسرائيلي السعودي الذي يسعى ليُهيمن على شؤون المنطقة، ولكنه لم يجد لنفسه مكاناً ثابتاً في هذا النظام الجديد حتى الآن، فالأردن طوال تاريخه تعلّم على شَبْك نفسه بطموحات الولايات المتحدة والقوى الإقليمية التي كانت تحتاج إلى دولة وكيلة مستقرّة لرصد أزمات خط المواجهة وتوجيه التدخّلات المجاورة، وفي المقابل حصل الأردن على المساعدة والسلاح والحماية الضرورية لتغذية اقتصاده والحفاظ على جيشه وبناء مؤسّسات دولته.
إلا أن هذه الاستراتيجية أصبحت تُخرِج الأردن من المركز وتُلقي به إلى هامش المعادلة الإقليمية وتتجاهل مصالح الأردن تماماً في المنطقة، وذلك من خلال قلب القضية الفلسطينية رأساً على عقب ووضع بذور صراعات لا ُتطاق، فالحديث الآن ينصبّ على مؤامرة صفقة القرن، والتي لا يمكن للأردن والأردنيون أن يمرّروها، لأن الملك والنظام نفسه لا يستطيع التخلّي عن الوصاية الهاشمية على مقدّسات القدس، ولهذا أمسكت المملكة العربية السعودية مبلغ 250 مليون دولار من مساعدة موعودة ردّاً على رفض الملك عبدالله الإنصياع إلى مُناشدة محمّد بن سلمان له بأن يعتذر عن حضور قمة منظمة التعاون الإسلامي الأخيرة حول فلسطين، كما أن الأردن يُعاقَب أيضاً لأنه رفض التورّط في حرب اليمن، وإرسال قوات للمشاركة في عاصفة الحزم، وفضّل البقاء بعيداً عن كل هذه المخطّطات الخليجية التي تصبّ في محصّلة تفتيت الأمّة العربية، واستنزاف ثرواتها ودماء أبنائها.
الأردن دولة وقيادة وشعباً، مُستهدَف استهدافاً استراتيجياً حثيثاً وأدوات الاستهداف بين ظهرانينا، فهو مُستهدَف من المحور الأميركي – الإسرائيلي – الخليجي معاً، كما أنه على موعدٍ مع موقفٍ مسؤول وطنياً وقومياً من صفقة القرن التي تستهدف القضية الفلسطينية باستخدام الأردن وقوداً لها، فالضغوطات كلها الآن في سياق مخطّط تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وعلى حساب الأردن كوطنٍ بديل، لهذا يجب أن يكون موقف الأردن الرفض لصفقة القرن جملة وتفصيلاً، ويقرن قوله بالفعل والبحث عن نهجٍ مختلفٍ وجديد.
فمنذ اتفاقيات أوسلو توسّط النظام الملكي الأردني في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية على فرضيّة أن ذلك سيؤول في نهاية المطاف إلى تشكّل دولة فلسطينية مستقلة (حق العودة)، ولكن كما ظهر من الجدل حول القدس ونقل السفارة الأميركية إليها، عمل المحور الأميركي الإسرائيلي السعودي على قتل حلّ الدولتين سامِحاً لإسرائيل وحدها بأن تُملي ما هو مصير الفلسطينيين، وهذا يهدّد الأردن وجودياً، حيث أن نسبة كبيرة من سكانه هم من الفلسطينيين، رغم أن معظمهم مواطنون أردنيون، وتحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين.
طوق النجاة للأردن هو فقط في تغيير النهج السياسي والتمسّك بالشعب، فالأردن اليوم في مرحلة متقدّمة من هجوم المحور الأميركي – الصهيوني – الخليجي، والذي يسعى لإخضاع الأردن والملك لمختلف الضغوطات الأمنية والعسكرية والسياسية للانضمام إلى حملة الإجهاز السياسي على القضية الفلسطينية، وإلى الحملة العسكرية ضد إيران في المنطقة، وفي كليهما مقتل محتّم، لأن الأردن ونظامه اليوم بلا غطاء سياسي ولا اقتصادي ولا عسكري، هذا من دون أن ننسى طبعاً كل السياسات الاقتصادية الظالِمة للخزينة والشعب والهدّامة للدولة (مشروع قانون الضريبة) والفساد الداخلي، حتى إن انتفاضة الشعب الأردني الأخيرة تجاوزت قانون الضريبة والضغوطات الإقتصادية إلى الدخول في عُمق طبيعة الأزمة السياسية بكل وعي وانضباطية.
لم تكن أهمية الأردن في يومٍ من الأيام ناجمة عن حجمه أو قوته وإنما عن قدرته على إقناع الحلفاء الخارجيين الراغبين أنه قادر على المساعدة في حماية مصالحهم، لأنه في واقع الأمر رقم صعب وموقعه الجيوسياسي صعب، لهذا يجب أن يلجأ الأردن إلى سياسة إعادة التموضع مع تركيا وإيران ويبحث عن تحالفات جديدة سعياً للحفاظ على وجوده، وأن يتصرّف بكل ذكاء وشجاعة لحماية نفسه ويُفشِل ويُسقِط كل محاولات الابتزاز، وقد لا يقتصر الأمر على احتفاء الأردن بالعلاقات مع إيران وإنما سيشمل تطبيعاً كاملاً مع سوريا والعراق، مع الاستمرار في رفض القبول بأن تكون القدس عاصمة إسرائيل، وربما الانحياز إلى جانب قطر في ما تتعرّض له من حصار، وضمان داعمين جدّد مثل تركيا، ومثل هذه الاستراتيجيات لن تجعل من المملكة بلداً أكثر نفوذاً ولكنها ستضمن بقاءها على قيد الحياة، وهذا هو الهدف الوحيد المهم الآن بعد موجة الاحتجاجات في الداخل والصراعات في المنطقة.
فإيران دولة كأية دولة قوية تبحث عن مناطق نفوذ، وهي توسّع نفوذها بما يُزعج جيرانها بشكلٍ كبير، ولكن جيرانها ليس عندهم دولة مركزية برؤية استراتيجة، بل يتصرّفون مشرذمين كرد فعل لا كفعل، أما الفعل فإن الخليجيين يرغبون في تمويل فعل أميركي إسرائيلي ومساندته ضد إيران، وتركيا هي أيضاً دولة عريقة تاريخياً ومتجذّرة في المنطقة وفي دول الإتحاد السوفياتي السابق الناطقة بالتركية، وهي كما إيران من الدول الكبرى في المنطقة، وكلاهما تتصرّفان وفق مصالحهما وتبحثان عن دوائر نفوذ لهما، أما نحن فلا مشروع عربي ولا دولة تدافع عن عروبتها.
العدو التاريخي يبقى هو إسرائيل والمشروع الصهيوني الذي لم يتوقّف ولن يتوقّف، ولا يجب أن نكبّر من أية عداوة أو خصومة أخرى لأن ذلك يخدم المشروع الصهيوني، فإسرائيل تمهّد لطرد الفلسطينيين إلى أراضي الأردن ليكون وطناً بديلاً، وحتى إن إبقاء الفلسطينيين في الأردن وتجنيسهم ومعاملتهم وفق المادة الثامنة في معاهدة وادي عربة هو شكل التوطين الجديد، والإسرائيليون لا تزال عندهم خطط حقيقية لتفريغ أراضي 1948 م والقدس والضفة الغربية من العرب، ولكن أهلنا في فلسطين بقوا بقوّةٍ وعناد، رافضين أية خطط مستقبلية لتهجيرهم، حتى لا ينفرد الإسرائيليون بيهوديّة الدولة.
وأياً كان الشكل الذي ستأتي به صفقة القرن، فإن المساهمة الأردنية فيها غير مطلوبة وغير مرحّب بها من قِبَل الأطراف الأميركية والإسرائيلية والسعودية التي صمّمتها، لأنها سوف تأتي على حسابه (أرضاً وشعباً)، مع تناسي ولاية الأردن على الأماكن المقدّسة في القدس، أي الوصاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، فالأُردن مُستهدَف من قِبَل جهاتٍ عديدة، عربية وأجنبية، لأنه حاول اتّباع سياسات مسؤولة في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة، وخاصة ملف تهويد مدينة القدس ومقدّساتها المسيحية والإسلامية، وتحويلها إلى عاصمةٍ أبديةٍ لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ورفضه لصفقة القرن التي تشكّل تصفية للقضية الفلسطينية وطمساً لحق العودة وكل الثوابت الأخرى.
الأُردن كان دائماً عنواناً للاستقرار في المنطقة، ولم يُغلق حدوده مطلقاً في وجه كل إنسان مظلوم يلجأ إليه بحثاً عن الأمن والعيش الكريم، سواء جاء من فلسطين أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن، كما وضرب المثل في التعايش بين الأديان والمذاهب والأعراق من دون أية تفرقة، ولذلك يستحق كل الدعم والمساندة للخروج من هذه الأزمة، هذا وإن كل أردني وطني صادق وقلبه على الأردن وعلى فلسطين، يجب أن يرفض صفقة القرن، فلا شيء أكبر من الأردن الوطن وكرامة الإنسان، ولا خيانة أعظم من ترك فلسطين وشعبها، فتحالفتنا يجب أن تكون مع كل المُتناقضات معاً.
حسني الخطيب