لا تكف المقاومة اللبنانية، منذ نهاية حرب تموز ـــــ يونيو عام 2006 عن مواجهة أفكار وتصورات ومواقف، في عمومها، استمرار للحرب الإسرائيلية بوسائل أخرى. هذا إذا استندنا إلى قاعدة الحرب التي تقول إنها اندلعت من أجل القضاء على المقاومة، وإجراء سلسلة من التغييرات في الشرق الأوسط، من شأنها أن تحسن البيئة الآمنة للدولة العبرية.
في هذا السياق يمكن تأطير سبعة اتجاهات أساسية تنتظم من أجل تكوين بيئة أمنية مضادة للمقاومة، حتى إذا ما عزلت وضعفت يسهل ضربها، وإن لم تعزل تماماً، يمكن مواصلة الضغوط عليها بحيث تخور قواها ومعنوياتها، وبالتالي حملها على الانخراط في المشاريع الداخلية اللبنانية بوصفها نهاية المطاف.
الإتجاه الأول والأخطر، يرمي إلى تفكيك القاعدة المباشرة التي تستند إليها المقاومة, وذلك عبر تقسيمها إلى أربع جهات: البقاع، والجنوب، وساحل المتن الجنوبي، وبلاد جبيل. هذا التقسيم يراد منه وضع الجهات المذكورة بمواجهة ومنافسة بعضها البعض، إزاء وظائف الدولة، والخدمات البلدية والمشاريع التنموية.. إلخ.
إن نجاح هذه المحاولة من شأنه أن يضعف أحد أهم أسلحة المقاومة، أي بيئتها المباشرة، التي تؤيد خيار التصدي لإسرائيل وردعها، ومن شأنه أن يساعد خصوم المقاومة وأعدائها في لبنان على النفاذ إلى هذه الجهات وحملها على مواجهة بعضها البعض.
الراجح أن هذه المحاولة لن تذهب بعيداً، إنها كمحاولات سابقة، قد تبؤ بالفشل، ليس بسبب قوة العصبية الطائفية لدى المقاومين فحسب، وإنما أيضاً بسبب ثقافة المقاومة. المقاومة التي تراكمت منذ تلك الحرب وتعززت مع الأدوار الناجحة التي لعبها المقاومون في الإقليم. إن بيئة المقاومة تشعر بالفخر إزاء أدوارها المحلية والإقليمية في مواجهة أعداء العرب وبالتالي يصعب أن تضعف أمام شعارات مطلبية، لا تتحمل المقاومة المسؤولية عنها.
الإتجاه الثاني، ينطوي على جملة من الشعارات والمفاهيم الديماغوجية، التي تبثها وسائل الإعلام اللبنانية والعربية على مدار اليوم، من طراز "أين المقاومة؟ لم يطلق حزب الله رصاصة واحدة على إسرائيل منذ سنوات طويلة" هذا في وقت تجري الدولة العبرية مناورات على مدار العام لمجابهة المقاومة. شعار آخر يقول "سلاح حزب الله غير شرعي لأن قرار الحرب والسلم يجب أن يكون عند الدولة اللبنانية" والراجح أن حملة هذا الشعار يعرفون أن الدولة اللبنانية يمكن أن تتلقى ضغوطاً خارجية إلى حد أنها قد ترمي ورقة الردع اللبنانية ضد إسرائيل في سله المهملات خلال عشرة أيام.
لم تنجح حتى الآن مثل هذه الشعارات في ضعضعة صفوف مؤيدي المقاومة، لكنها، ستجد من يستمع إليها، ويروجها، حينما يلاحظ أصحاب الطوابير المناهضة، أن أسهم المقاومة آخذة بالتراجع.
الإتجاه الثالث يكمن في الحصار الذي يسعى أكثر من طرف محلي وأجنبي إلى فرضه على المقاومة وبيئتها، في لبنان، والعالم العربي والإسلامي، وفي ملاحقة وسائل الإعلام المؤيدة والحؤول دون بثها في الفضاءات العربية والأوروبية. وملاحقة الناشطين ورجال الأعمال المقربين من المقاومة ومقاطعتهم، واستخدام لوائح المقاطعة، لترهيب المناصرين والذين كانوا يتبرعون لها. ومواصلة استخدام الورقة القضائية للنيل من المقاومة شرعياً.
هنا أيضاً لم تتعرض المقاومة لإصابات قاتلة، ومازالت قادرة على أداء أدوارها والإعلان عنها بنجاح كبير.
الإتجاه الرابع بدأ يبرز منذ بعض الوقت ويستند إلى التلويح بالنفط مقابل المقاومة. بتعبير آخر هناك من يغري بيئة المقاومة بأن التخلي عنها يعني تدفق النفط بنسب عالية من لبنان وعبر الأسواق العالمية على أن تكون العائدات للأطراف التي تقول بوجوب وضع حد للقتال ضد إسرائيل.
الراجح عندي أن المقاومة ومعها طيف واسع من اللبنانيين، ستصر على الربط بين النفط المستخرج والردع ضد إسرائيل. لقد ظل نفظنا طي الكتمان سنين طويلة إلى أن أميط اللثام عنه بفضل المقاومة. وذلك على الضد من حال النفط العربي حيث نجحت إسرائيل والغرب عموماً بعزل نفط العرب عن المقاومة.
تحمي واشنطن الأنظمة النفطية وتدعمها، وهذا الحال لا ينطبق على لبنان الذي حمته المقاومة بشراً وأرضاً ونفطاً وموقعاً، فعهل يعقل أن يطيح عاقل بعلة وجوده.
والإتجاه الخامس يرمي إلى أبعاد لبنان والمقاومة عن الترتيبات الإقليمية الجديدة، بعد الحرب السورية، وهو أمر يصعب إدراكه. فقد تشكل خلال سنوات "ربيع الزفت العربي" محور يشترك أطرافه في العقيدة الدينية والأهداف الإقليمية والتجربة القتالية الناجحة. من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى فلسطين لم يخسر هذا المحور معركة كبيرة واحدة وبالتالي لا شيء يحمل المنتصر المدرك على التخلي عن انتصاراته كرمى لعيون إسرائيل واليانكي.
والإتجاه السادس قديم/ جديد يقول حرفياً "لا توجد في بيروت مقاومة لبنانية وإنما إيرانية"، إذا أرادت إيران أن تقول لها لا تكوني فلن تكون، وبالتالي لا قيمة إستراتيجية لمقاومة لا تملك قرارها. يعرف الذين يروجون لهذه المعادلة المنافقة أن علاقة المقاومة بإيران ناجمة عن تصور مشترك لمستقبل الشرق الأوسط يكون لإيران وللبنان وللعراق واليمن وسوريا ودول أخرى مواقع ومصالح بعيداً عن التبعية للأجنبي. وبالتالي لا يمكن لأي طرف في هذا المحور أن يضحي بمصالح طرف آخر ليكسب هو ويخسر الآخرون. وأن فعل لا يرضى الآخرون فيخسر هو وهم يربحون. إن طهران التي ينسب إليها مثل هذا الإحتمال يتمتع قادتها بفكر استراتيجي يصعب أن يهبط إلى مثل هذا الدرك التافه.
والإتجاه السابع يرمي إلى عزل المقاومة اللبنانية عن فلسطين وبالتالي القول إن دورها ينتهي عند تخطيط الحدود وضبطه عبر القوانين الدولية. الواضح أن إسرائيل نفسها لا تستطيع الإلتزام بهذا الشرط لذا نراها تنتهك الأجواء اللبنانية والسورية وبعض الأجواء العربية. إن إسرائيل التي تخطط لمستقبل تكون فيه سيدة في الإقليم لا تستطيع الالتزام بحدود سايكس بيكو وبالتالي لا يمكن لمقاوميها أن يسمحوا لأنفسهم بالإنضباط داخل اللعبة التي ترسم هي حدودها.
المقاومة اللبنانية هي كغيرها من المقاومات الناجحة في التاريخ وجدت لتبقى ولتنتصر وكل توقع آخر تكذبه التجارب المعروفة وبالتالي لا قيمة.
فيصل جلول باحث لبناني مقيم في فرنسا