تركيس المساواة في الميراث بين المرأة والرجل في تونس، خطوة تأتي بعد العديد من التشريعات التي عُدّت ثورة حقيقية في عالم المرأة الشرقية بصفة عامة.
في خطوة غير مفاجئة دينية في فحواها، ولكنها سياسية في مضمونها، لأنها تأتي في ظروف إقليمية ودولية صهيونية واستعمارية تريد تفريق الأمّة على أي مستوى مذهبي عرقي أو ديني، المهم التمزيق، في مثل هذه الظروف، دعا الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى تكريس المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، وأكّد في خطاب في عيد المرأة يوم 13 آب/ أغسطس 2018، على ضرورة إجراء مراجعات قانونية من شأنها أن تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وأن يسمح لها بالزواج من غير المسلم، وهو ما أيّدته دار الإفتاء في تونس، ولكن عارضته أغلبية الشعب التونسي، رغم أنه وجد ترحيباً بين القوى اليسارية والعلمانية بحُكم ثقافتهم الداعية لفصل الدين تماماً عن السياسة.
الخطوة لم تكن مُفاجئة، لأن المرأة في تونس في عصر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أخذت حقوقاً غير مسبوقة في العالم العربي، فقد صدرت العديد من التشريعات التي عُدّت ثورة حقيقية في عالم المرأة الشرقية بصفة عامة، مثل قانون منع تعدُّد الزوجات، ورفع سن زواج الذكور إلى عشرين سنة، والإناث إلى 17 سنة، ومنع إكراه الفتاة على الزواج من قبل وليّ أمرها، وقانون يسمح للمواطن بالتبنّي، والسماح للمرأة بالإجهاض، ومنع الزواج العرفي وفرض الصيغة الرسمية للزواج وتجريم المخالف، وكذلك إقرار المساواة الكاملة بين الزّوجين في كل ما يتعلق بأسباب الطلاق وإجراءاته وآثاره، كما يمنع الطلاق إلا من خلال القضاء، وفي عام 1959 حصلت المرأة التونسية عل حق العمل السياسي تصويتاً وترشيحاً، ثم أصدر عام 1981 قانوناً يمنع النساء من ارتداء الحجاب، وهي حقوق غير مسبوقة بالفعل، ولكن بعضها يتعارض مع الثوابت الإسلامية، مثل التبنّي وزواج المسلمة من غير المسلم، وأيضاً في المقابل توجد بعض حسنات مثل منع الطلاق إلا في المحاكم بشهود، وهو الذي ينادي به الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر ويعارضه بشدّة كل الأزهريين، رغم كثرة حالات الطلاق في مصر.
على أية حال، وبعد أن اندلعت ما عُرفت بثورة الياسمين في ما قيل عنه بداية الربيع العربي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2014، وتمكّنت من عزل الرئيس زين العابدين بن علي، ظهر السلفيون والإخوان المسلمون متمثلين في حركة النهضة، رأى هؤلاء وأخذوا معهم معظم الشعب التونسي العودة للشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم، فطلبوا إباحة تعدّد الزوجات والطلاق وغيرها مما تم منحه للمرأة، ولكن هذه المطالب ذهبت أدراج الرياح، وعادت تونس للموقف العلماني، بعد إقرار المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى، حيث ينصّ قانون الميراث في تونس كما في الشريعة الإسلامية وغالبية الدول العربية، على أن للرجل نصيبين وللمرأة نصيب واحد من ميراث الأبوين، بناء على الآية القرآنية 11 من سورة النساء: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، وهو ما رأته أغلبية الشعب التونسي اعتداء على الشريعة الإسلامية، وأن هناك فرقاً بين الدولة المدنية، ودين الدولة، فالدولة المدنية لا تتخطى دين الشعب، كما يراه شيوخ الشعب، والدستور لابد من أن يتواءم مع الدين، فلا تخرج قوانين الأحوال الشخصية إلا من خلال الدين وتفسيراته رغم اختلاف العلماء، المهم أن التظاهرات خرجت مندّدة بالمساواة في المواريث، وتطرّقت للشأن الداخلي السياسي بشكل عام، فطالبوا بالعدالة والمساواة، المساواة في الشغل وليس الميراث وحده، أي أن الشأن الديني ابتعد بالسياسي، وهذا مكمن الخطر.
الدعوة في تونس أثارت حفيظة الأزهر الشريف في القاهرة، بكل مؤسّساته من مجمع البحوث الإسلامية إلى هيئة كبار العلماء، وذلك باعتبار الأزهر ممثل العالم الإسلامي السنّي، نلخّص موقف الأزهر في انتقاد الدكتور عباس شومان وكيل شيخ الأزهر، حيث اعتبر دعوة الرئيس التونسي : "تتصادم مع أحكام الشريعة الإسلامية" وقال في بيان نشرته الصفحة الرسمية لمكتب وكيل الأزهر على فيس بوك : "إن المواريث مقسّمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد، ولا تتغيّر بتغيير الأحوال والزمان والمكان، وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصلة لا مجملة ... وهناك العديد من المسائل التي تساوي فيها المرأة الرجل أو تزيد عليه، وكلها راعى فيها الشرع بحكمة بالغة واقع الحال، والحاجة للوارث أو الوارثة للمال لما يتحمّله من أعباء ولقربه وبعده من الميت، وليس لاختلاف النوع بين الذكورة والأنوثة كما يتخيّل البعض"، فالأزهر بتنويره لم يستطع التخلّي عن رؤيته في مثل أمور يراها لا تدخل ضمن الاجتهاد، فقد صمت الجميع وتحدّثت كتب الفتاوى والتفاسير، ولكن الحديث السياسي هو رأي رأته دار الإفتاء التونسية تدخلاً غير مشروع في الشأن التونسي الداخلي، وهاجم الليبراليون المصريون الأزهر في موقفه، وهو أمر في مجمله سياسي أكثر منه ديني، وهو يفرّق أكثر مما يجمع.
كان ومازال الأفضل ترك الأمور لضمائر المسلمين، وعند اختلاف الشيوخ، يتم عرض كل الفتاوى، خاصة أن قضايا الميراث بالتحديد، لأن لها مشاكلها القبلية والعُرفية، وتوجد حالات كثيرة يتم فيها منع الأخوات من الميراث، وهو أمر شائع في البلاد الإسلامية، وهو ما انتبه إليه المشرّع المصري وجعل لها عقوبة الحبس لمن يرفض تسليم أخته ميراثها.
أما بالنسبة لميراث الإناث، فقد حدّدها القرآن الكريم، عندما يموت الرجل وعنده أبناء وبنات، فيكون للذكر مثل حظ ابنتين، ولكن القرآن الكريم سكت عن حق الإبنة أو البنات اللاتي ليس لها أو لهن أخ، أهل السنّة بمذاهبهم الأربعة، قالوا إن البنت الوحيدة تأخذ نصف الميراث أو ثلثي الميراث للبنتين أو أكثر، والباقي يأخذه أقرب رجل ذكر أو رجال ذكور، بناء على حديث رواه البخاري "أعطوا أصحاب الفروض فروضهم، وما بقي لأقرب رجل ذكر"، وهو أمر عارضه الجعفرية الإمامية وقالوا بضرورة تطبيق الآية 75 من سورة الأنفال: "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"، وأقرب شخص للميت هو البنت الوحيدة أو البنات، وبالتالي تأخذ أو تأخذن كامل الميراث، نصف أو ثلثين بالفرض والباقي بالرد، هذا بالإضافة إلى أن الأزهر الشريف في عام 1949 أخذ من دون غضاضة أو تحيّز من المذهب الجعفري في ميراث إبن الإبن عندما يموت الأب قبل الجد، وبالفعل وحتى الآن يأخذ الأبناء ميراث أبيهم المتوفى من جدّهم الحيّ، بالوصية الواجبة، ونتذكّر هنا في عنفوان السيطرة السلفية الإخوانية على مقدّرات الدولة المصرية عامي 2012 – 2013 ، أن جاء وفد وهّابي سعودي برئاسة الشيخ أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي أستاذ الدراسات العليا بقسم العقيدة بجامعة أم القرى، وقابلوا الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وطلبوا منه إلغاء تدريس المذهب الجعفري من الأزهر الشريف، وهو ما رفضه الشيخ الطيب بشكل قاطع، وقال : نحن أخذنا بعضاً من الفقه الجعفري في الدستور المصري، والشيعة والسنّة هما جناحا الأمّة الإسلامية، فكيف نلغي تدريس المذهب الجعفري؟!"، وهو استنكار في محله، وفي نفس الوقت كنا نريد من شيوخ الأزهر طرح فتاوى موضوعات المواريث من كل المذاهب، وترك مساحة للاجتهاد الحقيقي، وترك حرية للمسلم من أن يأخذ من أي مذهب يختاره، وذلك بدلاً من تدخّل ديني نراه في شأن سياسي، يفرّق ولا يُجمّع، والله من وراء القصد.
علي أبو الخير، كاتب مصري