التقديرات لا تشير إلى تأثير متوقَّع لاستقالة ليبرمان على المؤسّسة العسكرية وقرارتها في كل ما يتعلّق بالتحديات العسكرية والأمنية، ذلك أن تأثير ليبرمان، وباعترافه، كان محدوداً، لا بل إنه علّل استقالته به، فضلاً عن أن الفجوات بينه وبين رئيس الأركان غادي آيزنكوت اتّسعت في الأشهر الأخيرة، مُقابل تسجيل تقارُب كبير إلى حد التطابُق في الرؤية بشأن الملّفات الاستراتيجية بين قيادة الجيش الإسرائيلي وبين نتنياهو، تقارُب مُرجَّح للاستمرار.
استقالة أفيغدور ليبرمان المُفاجِئة من وزارة الأمن ليست الأولى من نوعها في تاريخ الحكومات الإسرائيلية، لكنها كذلك لجهة السبب المُعلَن لها، وهو "الاستسلام للإرهاب" بحسب تعبير ليبرمان الذي ردّ خطوته هذه إلى مُعارضته قرار المجلس الوزاري المُصغَّر للشؤون السياسية والأمنية بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة في قطاع غزَّة.
ليس سرّاً أنه كانت هناك خلافات بين ليبرمان وبين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في مُقاربة " مُعضلة غزَّة" في الأشهر الأخيرة، وهو عبَّر عن ذلك مِراراً وتكراراً، وحاول مُتعمّداً تمييز موقفه عن نتنياهو. لكن السبب الذي أعلنه ليبرمان لاستقالته ليس وقفاً عليه. العديد من الوزراء، ولا سيما وزراء حزب البيت اليهودي، وبعض وزراء الليكود، يشاركونه الرأي، لكنهم لم يحذوا حذوه، وهو ما يفتح الباب على اعتباراتٍ أُخرى للاستقالة لا تقلّ أهمية في حسابات ليبرمان، اعتبارات شخصية وحزبية وانتخابية، تصبّ كلها في رَسِم مُستقبله السياسي وحسمه. فليبرمان وجد نفسه في الأشهر الماضية هدفاً لسِهام الانتقاد من شُركائه اليمينيين في الإئتلاف الحكومي، وعُرضة لتحريض جمهور المستوطنين عليه، وتم تحميله كل أوزار الإخفاق السياسي والعسكري في مواجهة قطاع غزَّة، واستحقّ، عن جدارة، سَيْل الاتّهامات الموجَّه إليه، واتّهامه من قِبَل اليمين نفسه أنه نسيَ كيف يكون يمينياً، لأن خطابه قبل استلامه وزارة الأمن كان صقورياً جداً، وهو بهذا المعنى دفع ثمن خطابه هذا، ولا سيما تعهّده بأنه لو استلم وزارة الأمن فلن يبقى " إسماعيل هنية على قَيْد الحياة أكثر من 48 ساعة".
قرار ليبرمان وجّه الأنظار سريعاً إلى التداعيات السياسية والعسكرية للاستقالة.
سياسياً، خيَّم على المشهد الإسرائيلي سريعاَ شبح حلّ الحكومة والكنيست وتقديم موعد الانتخابات. صحيح أن استقالة ليبرمان وخروج حزبه ( إسرائيل بيتنا) من الائتلاف سيجعل حكومة نتنياهو ضيّقة جداً تستند إلى 61 عضو كنيست من أصل 120، غير أن هذا لا يعني تلقائياً انفراط عَقْد الحكومة، والتوجّه مباشرة إلى انتخابات مُبكرِة، في ضوء التسرييات الصادِرة عن مُقرَّبين من نتنياهو بنيّة الأخير توليّ حقيبة الأمن بنفسه، والعمل على تثبيت استقرار حكومته. غير أن نتيناهو الذي لا يبدو راغِباً في التوجّه السريع إلى انتخابات مُبكِرة على الخلفية الأمنية تحديداً، سيجد في المقابل صعوبة في الحفاظ على الائتلاف الحكومي الضيِّق بعد انسحاب ليبرمان وحزبه، لأنه سيتحوَّل إلى رهينةٍ في يد أيّ عضو كنيست من أحزاب الائتلاف، وفي ضوء مطالب حزب البيت اليهودي بالحصول على حقيبة الأمن لصالح رئيسه الوزير نفتالي بينت، وتهديداته بالخروج من الحكومة ما لم ينل مُبتغاه.
عسكرياً، التقديرات لا تشير إلى تأثير متوقَّع لاستقالة ليبرمان على المؤسّسة العسكرية وقرارتها في كل ما يتعلّق بالتحديات العسكرية والأمنية، ذلك أن تأثير ليبرمان، وباعترافه، كان محدوداً، لا بل إنه علّل استقالته به، فضلاً عن أن الفجوات بينه وبين رئيس الأركان غادي آيزنكوت اتّسعت في الأشهر الأخيرة، مُقابل تسجيل تقارُب كبير إلى حد التطابُق في الرؤية بشأن الملّفات الاستراتيجية بين قيادة الجيش الإسرائيلي وبين نتنياهو، تقارُب مُرجَّح للاستمرار. التأثير المُتوقَّع على الجيش الإسرائيلي مرهون بهوية وزير الأمن الجديد، وميوله وتوجّهاته.
ما سلف لا يجعل من استقالة ليبرمان مُجرّد قنبلة صوتية أو دخانية، هي قنبلة سياسية بامتياز لأنها تضع مصير الحكومة في مهبّ الريح، وتخلط الأوراق كلها في إسرائيل، والأهم من ذلك هي قنبلة معنوية على مستوى الوعي بالمعنى السلبي لإسرائيل، لأنها تعكس إقراراً من أعلى موقع سياسي-عسكري بعد رئيس الحكومة، بأن المقاومة الفلسطينية فرضت مُعادلتها وقواعدها للعبة في المواجهة الأخيرة، وخرجت منها ويدها العُليا، وهو إقرار لن تبقى تردّداته محصورة على جبهة قطاع غزَّة، بل ستتردَّد أصداؤه على طول محور المقاومة وعرضه، ما يجعل من استقالة ليبرمان خطوة سياسية بمفاعيل استراتيجية.
عباس اسماعيل،أستاذ جامعي وباحث في الشؤون الإسرائيلية