هي السياسة.. تُعرَف بأنّها (فنُّ الممكن)، خاصة في عصر الأزمات التي تمسك بتلابيب الأوطان. فالعلاقات الإيرانية- العراقية شهدت أسوأ حروب خاضتها المنطقة في التاريخ الحديث، حيث استمرت لثماني سنوات (1980-1988)، ومع ذلك فقد شهدت ذات العلاقات تطوّراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، وكان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أول رئيس يقوم بزيارة للعراق منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979. كذلك فإيران لديها سفارة في بغداد وخمس قنصليات عامة في (السليمانية، أربيل، البصرة، النجف، كربلاء). وكذلك للعراق سفارة في طهران.
من طهران تأتي التصريحات.. بأن "أمن العراق هو أمن إیران والتقدّم والتطوّر في العراق هو تقدّم وتطوّر لإیران ویجب تعزیز التعاون والعلاقات بین البلدین یوماً بعد یوم". هكذا صرَّح الرئيس حسن روحاني مع نظيره العراقي برهم صالح في لقاء طهران، كذلك فـ"الطريق الوحيد لمواجهة المؤامرات هو الحفاظ على التلاحم بين أطياف الشعب العراقي، فالعراق العزيز والقوي والمستقل والمتطوّر مفيد جداً لإيران، وسنكون إلى جانب إخواننا في العراق. فبعض الدول في المنطقة وخارجها تتعامل بحقدٍ مع العراق وتتدخّل في شؤونه الداخلية". كان الردّ العراقي أن "العناصر والأسباب التي تجمع الشعبين العراقي والإيراني مُتجذّرة في التاريخ ولا يمكن تغييرها. عازمون على تحويل العراق إلى بلد قوي ونأمل الاستفادة من إمكانات إيران من أجل إعمار بلدنا".
الحقيقة أنه منذ إعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران في 8 أيار/ مايو الماضي، بدأ في فرض العقوبات عليها منذ 8 آب/ أغسطس الماضي، معتبراً أن الاتفاق لا يمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية. نعم ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، إنها العقوبات التي دخلت حيّز التنفيذ، في حزمةٍ ثانيةٍ وصفها ترامب بأنها "الأكثر صرامة في تاريخ الولايات المتحدة، وأنّ طهران بدت على وشك السيطرة على الشرق الأوسط قبل بداية عهده لكنّ الأمور تغيّرت أخيراً". فالعقوبات تغطي عمليات الشحن وبناء السفن والتمويل والطاقة. وسيتم وضع أسماء أكثر من 700 فرد وكيان وسفن وطائرات على قائمة العقوبات، بما في ذلك البنوك الكبرى ومصدّري النفط وشركات الشحن.
العراق استبق ذلك وتقدّم بطلبٍ للحصول على استثناء من هذه العقوبات، وحصل على وعد أميركي بإعطائه استثناء يتعلّق بالغاز الإيراني. وكبداية لفكّ العقوبات، حيث إعفاء لمدّة 45 يوماً لشراء الطاقة الكهربائية من طهران. فالعراق وإن حصل على هذا الاستثناء بعد مفاوضات بين مسؤولين عراقيين وأميركيين ممثّلين للبيت الأبيض ووزارة الخزانة الأميركية. حيث أجرى ممثلو الحكومة العراقية محادثات بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين لأشهرٍ من أجل ضمان عدم انهيار اقتصادهم الهشّ بسبب تصاعد التوتّرات.
الواقع أن الوضع الإيراني- العراقي يختلف، فقد بلغت قيمة الواردات غير الهيدروكربونية نحو 6 بلايين دولار عام 2017، ما يجعل إيران ثاني أكبر مصدر للسلع المستوردة في العراق. لكن ربما الأكثر أهمية بالنسبة إلى 39 مليون شخص في العراق، هو اعتمادهم على إيران للحصول على الكهرباء. ويُعدّ نقص الطاقة، الذي غالباً ما يترك المنازل بلا كهرباء لمدّة تصل إلى 20 ساعة في اليوم، عاملاً رئيساً وراء أسابيع من الاحتجاجات الكبيرة في العراق خلال الصيف. وللتغلّب على هذا النقص، تستورد بغداد الغاز الطبيعي من طهران إلى مصانعها، كما تشتري بشكلٍ مباشرٍ 1300 ميغاوات من الكهرباء الإيرانية.
نعم قد يكون هذا الاعتماد غير مُريح بالنسبة للولايات المتحدة التي سعت إلى تقليص نفوذ طهران وإعادة فرض العقوبات على المؤسّسات المالية الإيرانية وخطوط الشحن وقطاع الطاقة والمنتجات النفطية. هنا يبدو أن إعفاء العراق الخاص جاء بشرطٍ انفرد به، يُحدّد كيف سيتوقّف عن استخدام الكهرباء الإيرانية. فمن أجل الحصول على هذا الاستثناء، قدَّم العراقيون نوعاً من خريطة طريق. وقد تساعد الشركات الأميركية في ملء الفراغ الذي تركته إيران.
أمنياً في لقاء الرئيس صالح مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، أكّد أن "العراق حسّاس تجاه الإجراءات التخريبية التي تتبعها بعض الدول لزعزعة اسقراره أو استهداف الدول من خلال العقوبات غير القانونية ، وسيقف بقوّة بوجه كل مَن يسعى لاستهداف الوحدة بين الشعبين الإيراني والعراقي". جاء ردّ شمخاني واصفاً العلاقة مع بغداد بالاستراتيجية، وأن "مخططات بعض الدول الرجعية في المنطقة والولايات المتحدة لزعزعة هذه العلاقات الودّية لن تؤدّي إلى نتيجة". وحيث أن العراق ثاني أكبر مُنتج للنفط في (أوبك) بعد السعودية ويضخّ نحو 4.5 مليون برميل يومياً. ويجري تصدير معظم النفط العراقي عبر الموانئ الجنوبية، وتمثل هذه الصادرات أكثر من 95 في المئة من الإيرادات الحكومية للبلد العضو في «أوبك».
هنا تندرج زيارة طهران في إطار إيصال رسالة بغداد الواضحة والصريحة، وهي إدراك أهمية العلاقات الثنائية السياسية والثقافية والاقتصادية بين البلدين. وتؤكّد أن هناك إمكانية لرفع مستوى العلاقات الإقتصادیة بین طهران وبغداد إلى 20 ملیار دولار. كذلك ربط سكة حدید بین البلدین في الغرب والجنوب.. والتي تم إعداد التحضیرات لها من قِبَل وزارة المالیة العراقیة وستبدأ الشركة الإیرانیة العمل بها قریباً. فمن خلال ربط خط سكة الحدید الذي یبلغ طوله 35 كیلومتراً سیجري تسهیل عبور المسافرین من البلدین إلى البلد الآخر ، وسیكون كل من عبور الركاب والسلع أرخص وأكثر راحة. كذلك الاتفاق على إقامة منطقة تجارة حرّة بین البلدین وبدء الصناعة المشتركة .
محمد عبد الرحمن عريف كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية