كلما تكاثرت الفِتَن وتزايد الشِقاق وانحرفت البوصلة عن قضايا الأمّة الرئيسة والعادلة وفي مُقدّمها قضية فلسطين، عاد الناس في هذه الأمّة المُبتلاة، نخبة وشعوباً إلى الأزهر، وإلى الزيتونة والنجف وقم، ليبحثوا بين جنباتها عن الاتّجاه الصحيح والرؤية الصادِقة الصائِبة، فهكذا كانت تلك الرموز نبراساً وهادياً إلى الحق بعيداً عن المسارات والقِيَم الضالّة والمُضلّة.
في هذا السياق ومع تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ووسط تزايد إنحراف البوصلة الدينية والسياسية بسبب تنظيمات الإرهاب المُسلّح وربيعها العربي الزائِف، تأتي أهمية التذكير بدور وفتاوى الأزهر في الحثّ على الجهاد لتحرير فلسطين. إن الأزهر مثلما كان منارة للعِلم الديني، منذ نشأته في 14 رمضان سنة 359هـ - 970م، كان أيضاً مدرسة وقيادة للعمل الوطني والقومي دفاعاً عن قضايا الأمّة وفي مُقدّمها، فلسطين. مواقف الأزهر منذ حرب 1948 واضحة وليست بحاجةٍ إلى إعادة تذكير، لكن الذي يحتاج بالفعل إلى إعادة تدبّر هو فتاويه تجاه فلسطين وهي في مجملها تحضّ على الجهاد وحمل السلاح والمشاركة الفعّالة بالمال والنفس زوداً عن فلسطين والأقصى والقدس، ونحسب أن أوضاع الأمّة اليوم وقد تمزّقت وغلبتها الفِتَن وثقافة الدواعش والتي حرفت البوصلة إلى الاتجاه الخطأ ، تحتاج اليوم إلى التذكير بتلك الفتاوى ودلالاتها، ربما يساهم ذلك في إعادة الأمور إلى نصابها والبوصلة الدينية والسياسية إلى الاتجاه الصحيح.
في هذا السياق نتذكّر ونذكر أنه مُبكراً جداً دخل الأزهر بفتاويه الجهادية على خط المُساندة الفعّالة في دعم المقاومة الفلسطينية، ففي الأيام الأولى لنكبة عام 1948 نجد شيخ الأزهر والعلماء يدعون إلى الجهاد في سبيل الله لإنقاذ فلسطين والبلاد المُقدّسة من خطر الصهيونية. ونتذكّر أنه كانت لتلك الفتاوى التي أصدرتها مشيخة الأزهر من دون أن يطلب أحد منهم ذلك كما يحدث اليوم للأسف ، تأثيرها المعنوي الكبير في العالم العربي والإسلامي، وجاء في نصّ أهم وأول فتوى في هذا الصَدَد، والذي نحتاج إلى مثيله اليوم 2018 بعد70 عاماً على النكبة:
إلى أبناء العروبة والإسلام من علماء الجامِع الأزهر الشريف .. "هذا بيان للناس وهُدى وموعِظة للمُتّقين" بسم الله الرحمن الرحيم: يا معشر المسلمين .. قُضي الأمر وتألّبت عوامل البغي والطغيان على فلسطين، وفيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحَرَمين ومُنتهى إسراء خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه.
قُضي الأمر، وتبيّن لكم أن الباطِل مازال في غلوائه، وأن الهوى ما فتىء على العقول مُسيطراً، وأن الميثاق الذي زعموه سبيلاً للعدل والإنصاف ما هو إلا تنظيم للظلم والإجحاف، ولم يبق بعد اليوم صبر على تلكم الهضيمة التي يريدون أن يرهقونا بها في بلادنا ويجثموا بها على صدورنا، وأن يمزّقوا بها أوصال شعوب وحّد الله بينها في الدين واللغة والشعور ولأن البيان طويل فإننا نأخذ أهم فقراته والتي منها:
يا أبناء العروبة والإسلام: خذوا حذَركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً، وإياكم أن يكتب التاريخ أن العرب الأُباة الأماجد قد خرّوا أمام الظلم ساجدين، وقبلوا الذلّ صاغرين .
إن الخَطْب الجَلَل، وإن هذا اليوم الفصل وما هو بالهزل، فليبذل كل عربي وكل مسلم في أقصى الأرض وأدناها من ذات نفسه وماله ما يردّ عن الحِمى كيد الكائدين وعدوان المُعتدين.
ويختم البيان بقوله (فإذا كنتم بإيمانكم قد بعتم الله أنفسكم وأموالكم فها هو ذا وقت البذل والتسليم، وأوفوا بعد الله يوف بعهدكم ، وليشهد العالم غضبتكم للكرامة ، وذودكم عن الحق ولتكن غضبتكم هذه على أعداء الحق وأعدائكم لا على المُحتمين بكم ممّن لهم حق المواطن عليكم وحق الاحتماء بكم، فاحذروا أن تعتدوا على أحد منهم إن الله لا يحب المُعتدين ، ولتتجاوب بعد الأصداء في كل مشرق ومغرب بالكلمة المُحبّبة إلى المؤمنين : الجهاد ، الجهاد ، والله معكم"
التوقيع : الشيخ محمّد مأمون الشناوي شيخ الأزهر ، الشيخ محمّد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية ، وعشرات التوقيعات لكبار العلماء . والسؤال هنا ما الدلالة المُعاصِرة لهكذا فتوى؟ إننا نعتقد أن قوى المقاومة في فلسطين وخارجها تحتاج إلى إعادة تمثيل وتطبيق لروحها الداعية للجهاد المُسلّح والجهاد بالنفس وليس لنصّها فقط ، ففلسطين تعيش وضعاً مشابهاً _ بل أشد_ لوضع حرب النكبة عام 1948. والأزهر لم يتوقّف عند هذه الفتوى بل أصدر ومعه دار الإفتاء المصرية عشرات غيرها "أصدرناها مُجمّعة في كتاب مهم عن مركز يافا للدراسات والأبحاث في القاهرة عام 1998 تحت عنوان: فتاوى الأزهر عن الجهاد في فلسطين إعداد الشيخ الدكتور جواد رياض" وكلها تذهب إلى ضرورة الجهاد في فلسطين وأن التطوّع لفلسطين جائز، بل إن التطوّع واجب شرعاً، ومَن ترك هذا الواجب كان آثماً.
ومن الكلمات والفتاوى المُعبّرة وقتها ما قاله العلاّمة الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية والأزهري المرموق إن "الجهاد بالنفس أو المال لإنقاذ فلسطين واجب شرعاً على القادرين من أهلها وأهل الدول الإسلامية التي تحاول الصهيونية اليهودية بقوّة السلاح إقامة دولة يهودية في قُطرٍ من أعزّ أقطارها الإسلامية العربية وهو فلسطين، لا لتملكها فحسب بل للسيطرة على دول الإسلام كافة والقضاء على عروبتها وحضارتها الإسلامية، ومَن نَكَص عن القيام بهذا الواجب مع الاستطاعة أو خذل عنه كان آثماً"
إن ما يجري اليوم بين الفرقاء الفلسطينيين، تحديداً فتح وحماس، من خلافات وصراعات لا يستفيد منها سوى العدو الصهيوني، له أدعى لإعادة تمثّل القِيّم الجهادية التي تحتويها فتاوى الأزهر وبخاصة تلك التي صدرت في عام 1948، عام النكبة فهي فتاوى تأسيسية في هذا المجال، خاصة وأن ما تعيشه فلسطين بفصائلها ومسيرة قضيتها وتخلّي ذوي القُربى بل وحصارهم لأهلها ، شبيه تماماً بنكبة 1984. وفي النكبات المُتشابهة يُستدعى الإفتاء على درب الجهاد لكي يعدّل المسار المُنحرِف ، من هنا وَجَب حضور الأزهر وبقوّة في قضية فلسطين. فإن لم يكن بشخص ومواقف وسياسات رجاله وشيوخه، فعلى الأقل بفتاويه وهذا أضعف الإيمان والله أعلم.
رفعت سيد أحمد،كاتب ومفكر قومى من مصر. رئيس مركز يافا للدراسات والأبحاث القاهرة.