الرئيس الفرنسي الذي يعلن عن تحمله جزءاً من المسؤولية في فشل الحكومة وفي إثارة الاحتجاجات، يحاول الإيحاء بأنه يتعلّم الدرس الذي يدفعه إلى تغيير سياسته المحابية للأغنياء، ويدفعه إلى التخلّي عن العنجهية الارستقراطية. لكن الإجراءات التي تعهّد بتنفيذها ابتداءً من الشهر المقبل قد تؤدي إلى بلبلة الآراء في صفوف "السترات الصفر" بشأن أشكال الاستمرارية، ولا تؤدي إلى تخطّي أزمة منظومة أعمق من أزمات الحكم.
ما سماه الرئيس الفرنسي "حالة طوارىء اقتصادية واجتماعية" لنزع فتيل الانفجار في فرنسا، يشير إلى اختيار العبارات بعناية فائقة، أملاً في إطلاق العنان للإعلام الفرنسي لغرس انطباع بأن ماكرون بعد اندلاع الأزمة يرش الملح على ما كان عليه حكم ماكرون حتى السبت الأسود كما يسميه الفرنسيون.
زيادة الحد الأدنى للأجور بحوالي 100 يورو لا تُسمن من جوع، بحسب ردود الفعل الأولية لتجمعات "السترات الصفراء" على حواجز الطرقات بين المدن. ولا تُغني الاعفاءات الضريبية الزهيدة من فقر يستفحل منذ 40 سنة، وفق ماكرون، مهدّداً حوالي 80 بالمئة من الفرنسيين تحت الهوّة التي تفصلهم عن الـ 20 بالمئة من كبار الأغنياء.
بين العبارات التي اختارها ماكرون بعناية، إشارة إلى الاعتراف بأزمة الديمقراطية وفق مطلب المحتجين بالديمقراطية التشاركية. في هذا الصدد يعترف ماكرون بأن الانفصام بين رأس السلطة وغالبية الشعب، أعمق من سوء أداء رئيس متعجرف يتقمّص شخصية ملك الشمس. فهي أزمة انفصال الرأس عن الجسد في المناطق والأرياف التي تشارك في الاختيار بين الممثلين ولا تشارك في صناعة القرار.
انفجار الاحتجاج ضد حكم الرئيس ماكرون، يستهدف تغيير سياساته الاجتماعية نحو عدالة الضريبة بين الفقراء والأغنياء، ونحو دور الدولة الراعية للحقوق في العمل والمأوى والطبابة والخدمات الاجتماعية والراعية لتكافؤ الفرص. لكنه يستهدف أساساً تغيير رؤية ماكرون فيما يُطلق عليه "الإصلاح والتحديث" لتقليص دور الدولة والاعتماد على الشركات والبنوك والاستثمار الأجنبي في حل مشكلة الفقراء.
في هذا الاطار يتعهّد ماكرون بتوزيع المكارم على فئات من المحتجين بكلفة 10.8 مليار يورو، تؤدي إلى زيادة العجز البالغة ألفي مليار يورو وإلى زيادة خدمة الديون البالغة 40 مليار يورو. وهو عبء يدفع ثمنه آجلاً وعاجلاً الأكثر عرضة للتهميش.
ولا يبدو أن ماكرون الداعي إلى حالة طوارىء اجتماعية مستعد لأن يطرق باب تغيير رؤيته سواء في البحث عن سبُل حل الأزمة بين المركز والمناطق، أم عن حل معضلة خضوع الدولة لسلطة اليورو والرساميل الكبيرة في الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية على وجه التحديد.
في تمجيده لرؤيته ينطح ماكرون تطلعات عظماء أوروبيين سابقين لإنشاء اتحاد فيدرالي أوروبي بجيش موحّد وسياسة خارجية مستقلة عن الناتو، قبل أن يتمخض مشروع الاتحاد عن مجرد سوق تجارية وعملة موحّدة.
والمفارقة أن البعض خارج فرنسا يحلو له تصريف فعل قال يقول، لكي يستنتج أن انفجار الأزمة في فرنسا هي مؤامرة أميركية ضد ماكرون الذي لفظ كلمة جيش أوروبي في عالم الغيب.
والمفارقة الأدهى أن وزير الخارجية الفرنسي يلمّح إلى مؤامرة روسية في إثارة الاحتجاجات عبر آلاف الرسائل النصّية ومئات الحسابات الناشطة خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
حكومة ماكرون أكثر تواضعاً وبرغماتية في التلميح إلى مؤامرة داخلية يقوم بها اليمين المتطرف وما وصفته باليسار المتطرف، في الإشارة إلى حركة "فرنسا غير الخاضعة" بزعامة جان لوك ميلانشون. وهو من باب لزوم ما لايلزم في سردية وسائل الإعلام للدفاع عما تراه الاعتدال الفرنسي في قصر الاليزيه وحكمه الرشيد الذي يستلزم في هذه الحالة تمييع تطرف مارين لوبان الداعية إلى تفوّق العرق الفرنسي الصافي من أغنياء فرنسا وفقرائها المحاربين ضد العرب والمسلمين والمهاجرين.
وكذلك تشويه راديكالية ميلانشون في الدعوة للحقوق من دون تفرقة بين فرنسي وعربي ولاتيني ضد القهر والظلم في منابعه من أميركا إلى الاتحاد الأوروبي وصناديق النقد والبورصات في الدول الغربية.
مناورة ماكرون في الإيحاء بتقديم تنازلات وتغيير رؤيته السابقة، لا تفتّ من عزيمة حركة "السترات الصفر" التي تدعو إلى سبت خامس رداً على الإجراءات، وتعمل في الوقت نفسه على تنظيم المظاهرة وحمايتها لعزل محترفي الشغب والتكسير عن الحركة.
لكن المعضلة التي تعترض الحركة هي إيجاد أشكال ملائمة للبقاء والاستمرارية. وفي هذا المسار تعمل الحكومة على إعادة التصنيف بين معتدلي الحركة التي تمثلهم جاكلين مورو الداعية الى العمل على خوض الانتخابات البلدية في الأشهر المقبلة، وبين راديكاليين تمثلهم بريسيليا لودوسكي التي أطلقت الشرارة الأولى وهي من أصول أفريقية في الثلاثين من عمرها رفضت منذ البداية لقاء اليمين المتطرف وتدعو إلى جمعية وطنية للمواطنين. وأيضاً بين راديكاليين آخرين يمثلهم إيريك دروايه وهو سائق نقل في منتصف الخمسينات من عمره تتهمه الشرطة برفض أي حوار وتفاوض مع الحكومة.
العقبات التي تعترض استمرارية حركة "السترات الصفر"، هي العقبات نفسها التي تعترض تنظيم النقابات والأحزاب التي تواجه أزمات أكبر من قدرتها الحالية على تغيير المنظومة المؤسسة للشرخ الاجتماعي والسياسي والهوّة بين المركز والمناطق وبين الأغنياء والفقراء. ولا تقلّ هذه العقبات والصعوبات عن مأزق الحكومة والرئيس ماكرون في تغيير رؤيته. لكن حركة السترات رمت حجراً في مستنقع آسن.
قاسم عز الدين