هو تضارب أو على الاقل افتراق الاهداف. باختصار ما يميّز المقاربات الدولية المختلفة لمسألة الوجود العسكري الاميركي في شرق الفرات.
بسيط القول بأن كل هؤلاء التقوا على هزيمة داعش. فلكل منهم علاقة مختلفة تماماً بالتنظيم الارهابي كما بالتنظيمات الارهابية الأخرى التي عملت في سورية، في العراق، في ليبيا، وفي الساحل الافريقي. لكنهم يلتقون على أمر واحد هو اعتبار الحرب على داعش عنواناً لأهداف أخرى تختلف حد التناقض. ولعل الجانب الساذج الوحيد بينهم، كما العادة هو الجانب الكردي.
هؤلاء المواطنون الذين يقفون دائماً مستعدين للتخلي عن مواطنتهم ودولتهم في أيّ دولة من دول المنطقة للسعي نحو حلم اثني – عرقي انتهى في الغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن دون أن ينتهي كسلاح في يد السياسات الغربية واجهزة استخباراتها لتفكيك الدول الاخرى. في كل مرة يضعون انفسهم في يد هذه السياسات أملاً بالانفصال ثم يصرخون بالتخلي ويستنجدون بدولتهم التي طعنوها. حتى أن الباحثة الفرنسية فابريس بلانش تكتب في صحيفة لو فيغارو انهم لم يكونوا يريدون هزيمة نهائية لداعش كي لا ينتهي الوجود العسكري الاميركي قبل قيام دولتهم.
لم يسمعوا هيلاري كلينتون تقول بأن اميركا هي من أنشأ داعش؟ لم يسمعوا ايمانويل فالس، رئيس وزراء فرنسا في عهد هولاند، يصرح بأن حكومته لا تستطيع أن تمنع أي شاب فرنسي من الذهاب الى سورية لمقاتلة الديكتاتورية، لنكتشف فيما بعد سلسلة من الفضائح حول دور استخباراتي فرنسي للعديد من هؤلاء المجاهدين. ولعل اشهرهم حمزة الفرنسي احد قادة جبهة النصرة الذي كشف النقاب لدى مقتله عام 2014 عن اسمه الحقيقي: ديفيد دو غريون، وعن مهمة استخباراتية سابقة له في باكستان. ومثله محمد مراح الجزائري الفرنسي الذي قتل في مداهمة أمنية بعد عملية تولوز، وكانت أوساط المهاجرين العرب هناك تعرف جيداً أنه تنقل بين الساحات الارهابية بمهمة استخباراتية. ومن ثمّ شكل هؤلاء جميعاً التحالف الدولي لمحاربة داعش، وجاؤوا يحتلون الاراضي السورية بحجة ذلك. ليتمحور وجود قوات التحالف كما وجود قوات داعش كما وجود القوات الكردية حول منابع الطاقة وخطوطها، وفي النقاط الستراتيجية بين سورية والعراق والاردن. بالمقابل كانت التسهيلات الاساسية التي قدمتها حكومة رجب طيب اردوغان لتنظيم داعش كما لسائر التنظيمات الارهابية في سورية والعراق؟
ولكل أهدافه. الاميركي ركّب اللعبة في محاولة لمقاومة صعود هذه القوى الدولية التي تهز أحادية عرشه، ليثبت هيمنته سياسياً واقتصادياً، وليعاقب الدولة السورية التي لم تنصع لهذه الأحادية. وليقدم هدية لمدللته اسرائيل بتدمير آخر قوة عربية تهددها. وفي سياق ذلك لم تكن لديه مشكلة في التقسيم وفي توظيف أصحاب أيّة هوية فرعية لضرب الدولة، سواء كان هؤلاء اثنية كما الكردي، أو جماعة متشددة اخوانية أو أصولية ولو ارهابية.
فالأميركي هو صاحب نظرية الوظيفية وايديولوجية المنفعة، لكنه أيضاً أب البراغماتية، واذ تصل الامور الى ما وصلت اليه، فإن هذا الرئيس الأكثر براغماتية يقيم معادلات بسيطة: لقد استعمل داعش وبإمكانه ان يستعمله في مكان آخر، من هنا غرّد ترامب على تويتر: "لقد انتصرنا على الارهاب في سورية" ( لم يقل بالمطلق)، وعليه علقت الصحافة الغربية بالتساؤل: "هل يعني ذلك نقل عناصر التنظيم الى سيناء أو ليبيا أو الساحل الافريقي؟"، لقد استعمل الكرد ولكن مصالحه تتجاوزهم فلا بأس من بيعهم بمقابل.
لقد استعمل هؤلاء الحالمين بالانفصال، ولكنه لن يتحدى بهم تركيا الاطلسية وصاحبة أكبر جيش في المنطقة، ولن يتحدى العراق حيث مصالحه وحيث لم ينتصر حتى لاستفتاء البرازاني، وحتى سورية التي يأمل في أن يعوض فشل بلاده فيها سياسياً وعسكرياً بفائدة اقتصادية من خلال اعادة الاعمار وربما من خلال صفقات أخرى مع ضامني أستانة لم تكشف بعد.
في خط مقابل يرى آخرون في الادارة الاميركية عكس ذلك: بولتون، ماتيس، وبومبيو، صرّحوا تباعاً بأن الوسيلة الافضل هي ابعاد تركيا عن التحالف مع روسيا وايران. والبقاء العسكري في سورية لمقاومة النفوذ. نفوذ تضج وسائل الاعلام بالجانب الايراني منه لأنه ما يهم اسرائيل، ولكن ماتيس كان واضحاً في تحديده حيث قال "الدول التي تتعارض مع مصالحنا، روسيا والصين". غير أن ترامب وجد أن فكرة ابعاد تركيا عن روسيا وايران، صعبة للغاية لأن مصالح الدول الثلاث تتجه الى تمتين التقارب. وليس من مصلحته دفع انقرة أكثر بعيداً عنه.
الروسي والصيني نجحا في نصب عرشيهما الى جانب عرش السيدة، ولكن كل بطريقته التي تحددها مصالحه وسياساته والتحديات التي يواجهها. فالأول يكتفي بالاقتصاد أما القيصر الجديد الذي واجه محاولة الغرب خنقه عبرانتزاع اقوى ورقة في يده: الهيمنة على امدادات الغاز الى اوروبا. وذلك بمد شبكة تنقل الغاز القطري عبر سورية فالمتوسط، فقد وجد أنه لا يمكن مواجهة هذا التحدي الاّ بتحقيق الحلم القديم بالوصول الى المياه الدافئة عسكرياً وسياسياً.
وصل ولم يكتف بمنع مد الشبكات المعادية بل انه تمكن من قلب المعادلة كلها عندما توصل الى مد خط روسي يعبر تركيا الى المتوسط ومنه الى اوروبا. وكأن ثمة تحد مشترك لاوروبا جمعه بأردوغان. اضافة الى أنه حقق المشاركة القوية في الثروات الغازية القادمة في سورية وغيرها من حوض المتوسط. وازاء هذا كله لا مصلحة له الا في بقاء الدولة السورية وقوتها ووحدتها، حتى لو تقبل مبدئياً فكرة الفدرالية. اضافة الى أنه يشعر بغضب ازاء الاكراد الذين لم يستجيبوا لليد التي مدها لهم عام 2017. خاصة اذا صدقت المصادر التي تقول بأنه ثمة صفقة مع الاتراك: الهجوم على الكرد مقابل ادلب ومقابل عودة الجيش السوري للسيطرة على حقول نفط دير الزور.
تبقى اوروبا، وخاصة فرنسا التي شكلت رأس حربة ضد سورية ، والتي ربطت نفسها تاريخياً بالانفصالية الكردية، دون أن ننسى أنها وبريطانيا سيدات التقسيم في العالم العربي. اوروبا بدورها تنقسم الى براغماتيين ربما تمثلهم موغيريني والى متشددين وعلى رأسهم فرنسا التي لم تتغير من ساركوزي اليميني الى هولاند اليساري، وظل برنار هنري ليفي نشطا في الادارتين من ليبيا الى سورية، سورية بمعارضتها المتهودة الى كردها الانفصاليين. اوروبا تعبر علناً عن خوفها من تنامي موجات الهجرة اذا ما نقل داعش الى ليبيا وسيناء، لكن فرنسا تخشى، في واقع الأمر، على وجودها ونفوذها في الساحل الافريقي اذا ما نقل الاميركي داعش الى هناك. اضافة الى أن التدخل الفرنسي المستميت في سورية لم يمنح توتال واخواتها شيئاً.
معادلات متشابكة، انما تؤشر كلها على فشل المشروع الاميركي الصهيوني في سورية التي تمكنت بدماء ابنائها وصمود قياداتها على فرض معادلات جديدة على حلفائها وعلى اعدائها معاً. دون أن تتمكن من جعل النظام الرسمي العربي على مستوى التحدي القومي، على الاقل، بعدم الاندراج في المؤامرة، ان لم نقل بمواجهتها وهي التي تستهدف بلادنا كلها.
ياة الحويك عطية ، كاتبة وباحثة، خبيرة في الإعلام السياسي