لا يختلف إثنان على أن الحسابات السياسية في النزاعات المُسلّحة تختلف عن غيرها في بقيّة النزاعات، ففي النزاعات المُسلّحة تأتي القوّة العسكرية والمساحة المُسيطَر عليها وقوّة الحلفاء ومصداقيتهم في مقدّم تلك الحسابات، وبناءً على ذلك كنا نقول إن الميلشيات الكردية والقبائل العربية التي تعمل تحت الراية الأميركية ارتكبت خطأ كبيراً عندما راهنت على الأميركي وسعت إلى تحقيق مصالحها من خلاله، وذلك في احتلال جزء من الجغرافيا الوطنية السورية كي يكون كياناً منفصلاً يتمّ إلحاقه مستقبلاً بإقليم كردستان العراق كنواة لدولة كردية، وهنا فإن المُقاتلين الكرد والعرب لا يتحمّلون الكثير من المسؤولية كزعمائهم الذين نفّذوا المُخطّط الأميركي بقليلٍ من التفكير وكثيرٍ من الريالات.
فمَن يمتلك بعض الموضوعية يعرف أن القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا قد تمّ اتّخاذه منذ عدّة شهور، أي عندما أيقن الأميركي بخسارته في سوريا، والآن يبدو أنه قد تمّ وضع هذا القرار على سكّة التنفيذ وإن بدا أن الخلاف على أشدّه بين أقطاب السياسة في الداخل الأميركي، فمعظم هؤلاء الأقطاب يرحّبون بهذا الانسحاب، رغم أنهم مضطّرون للتصريح بعكس ذلك بسبب السنوات الأخيرة التي أمضوها في الترويج عن فوائد وأهمية "شرطي العالم" في سوريا.
ومَن يعرف التاريخ الأميركي وعدم مصداقيته مع حلفائه يعرف بأن الأميركيّ لم يتخلَّ عن الكرد وملحقاتهم فقط، بل تخلّى عن حلفائه الأوروبيين الذين يتواجدون في شرق سوريا من دون أن ينسّق معهم عملية الانسحاب، وتخلّى أيضاً عن إسرائيل التي كانت تعوّل الكثير على المساعدة الأميركية في إقامة كيان خاص بالكرد، كما تعوّل على الحاجز الذي تشكّله أميركا بوجه ما تسمّيه التمدّد الإيراني في المنطقة، وآخر مَن تخلّى الأميركي عنه من الحلفاء هم بقايا تنظيم داعش المتواجدين فقط بجوار القوات الأميركية حيث كان الأميركي ولعدّة سنوات يؤمّن لهم الحماية والدعم.
هنا يأتي مَن يقول بأن الأميركي لن ينسحب إلا بعد تأمين مَن يستطيع أن يملأ الفراغ الذي سيتركه، وهذا الكلام ليس أكثر من مُخدّر لمَن بقي يُراهن على قدرته في احتلال مساحة من الأرض السورية، فالفراغ الذي سيتركه الأميركي مُرغماً لا يقوى أحد على ملئه إلا الدولة السورية، لأنّ أية قوّة أخرى ستكون هدفاً للجيش السوري الذي لن يجد الكثير من الصعوبة في تحرير هذه المناطق.
وهنا تكثر السيناريوهات المُحتملة بعد هذا الانسحاب، فمنهم مَن يؤمن بقدرة القوات المتواجدة هناك على الصمود في ظلّ دعم خليجي واضح، وهذا غير واقعي بعد التخلّي الأميركي والذي سيتبعه تخلٍ أوروبي، ومنهم مَن يعتقد أن تركيا ستقوم باحتلال تلك المناطق، وهو أمرٌ بعيد المنال أيضاً لأنه يضع تركيا في مواجهة مباشرة مع سوريا وحلفائها، وهذا ما لا تستطيع تركيا أن تتحمّل تبعاته، ولذلك سيكون أقصى أحلامها هو إبعاد الفصائل الكردية عن حدودها لعدّة كيلومتراتٍ تحلّ فيها فصائل موالية لها، على أن يكون الجميع في مرحلةٍ لاحقةٍ تحت سيطرة الدولة السورية، ويبقى الاحتمال الذي نراه أكثر واقعية هو التخلّي الكردي عن أوهام الفيدرالية والمُسارعة إلى تسليم المناطق التي يسيطرون عليها للجيش السوري، وذلك بالتنسيق مع الحلفاء وبموافقة تركية.
هنا لو نظرنا إلى ما هو أبعد من قرار الانسحاب الأميركي لوجدناه بداية لقرارات أخرى بالانسحاب من معظم المنطقة، إن لم يكن من كلها، في ظلّ دخول روسي قوي لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية أن توقفه، وبذلك استسلمت لقناعة مفادها أن الانسحاب الآن هو أقل كلفة من الانسحاب غداً، فالروسي الذي فاجأ الجميع بقوّة قراراته وقوّة سلاحه وحداثته، لن يتوقّف عند حدود أن يكون قطباً عالمياً، فهو نال هذه المرتبة منذ الفيتو الروسي الأول في الأزمة السورية ولكنه سيتجاوز حتى الخطوط الأميركية الحمراء، وما الترحيب المُميّز للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بوليّ العهد السعودي في قمّة العشرين مؤخّراً، إلا رسالة مزدوجة تقول للسعودي بأننا ننتظركم، وتقول للأميركي بأن العين الروسية الآن هي على بقرتكم الحلوب، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: هل تكون العين الروسية الأخرى على الولايات المتحدة الأميركية ذاتها؟. قد يظنّ البعض أن هذا الكلام فيه الكثير من الطوباوية ولكن مَن كان يتوقّع أن ينهار الاتحاد السوفياتي بهذه السرعة والسهولة؟ وقد قال "بوتين" ذات مرة أنه سيثأر ممَن كان السبب في تفكّك الاتحاد السوفياتي. والجميع يعرف أن اليد الطولى في ذلك الانهيار كانت للأميركيين.
نعتقد ذلك ونتمنّاه وإن غداً لناظره قريب.
غسان الاستانبولي، كاتب وباحث سوري