السياسة الخارجية الأميركية الجديدة -من الصراع إلى التنافس-

قيم هذا المقال
(0 صوت)
السياسة الخارجية الأميركية الجديدة -من الصراع إلى التنافس-

تعود العلاقات الدولية اليوم إلى احتدام التنافس، الذي ترسّخ في أوروبا منذ تأسيس مجلس أوروبا سنة 1815، بعد مرحلة مخاض عسير أعقبت سقوط الإتحاد السوفياتي وظهور قوى إقليمية ودولية جديدة تبحث لنفسها عن مكانة في عالم موار بالتغيّرات والتحوّلات، ويبحث التقرير من خلال أطروحته "المركزية-الأميركية" عن إستراتجيات السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة تجاه الصين وروسيا وباقي دول العالم.

في التقرير الجديد لمؤسّسة  راند، يستشرف المركز الشهير الدور الأميركي الذي يقترحه خبراؤه لصنّاع القرار في بلاد العم سام في زمن التنافس الدولي.

تعود العلاقات الدولية اليوم إلى احتدام التنافس، الذي ترسّخ في أوروبا منذ تأسيس مجلس أوروبا سنة 1815، بعد مرحلة مخاض عسير أعقبت سقوط الإتحاد السوفياتي وظهور قوى إقليمية ودولية جديدة تبحث لنفسها عن مكانة في عالم موار بالتغيّرات والتحوّلات، ويبحث التقرير من خلال أطروحته "المركزية-الأميركية" عن إستراتجيات السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة تجاه الصين وروسيا وباقي دول العالم.

في نظر التقرير المرحلة المقبلة هي مرحلة تنافس دولي لا مرحلة صراعات عسكرية بالضرورة، ويستبطن مؤلّفوه رؤية مختلفة لطبيعة الصراع بين الولايات المتحدة والقوى الصاعدة، فالتنافس يتمثّل أساساً في ذلك السباق المحتدم حول تعزيز المكانة الإقتصادية والسياسية والمعنوية تجاه الآخرين سواء كانوا أصدقاء أو أعداء. في التنافس هناك سعي حثيث نحو تقليل مكاسب الآخرين أحياناً أو التفوّق عليهم وعلى محاولة اكتساب المنافع تجاه من يشكّلون تحدياً أو تهديداً في المصالح المتنازع عليها مثل السلطة والأمن والثروة والنفوذ والوضع الدولي.

عوامل القدرة على التنافس:

  • ديمقراطية الأنظمة: لا يمكن للدول التي لا تحلّ نزاعاتها الداخلية بطُرق غير سلمية أن تحقّق تنافساً جدياً مع الآخرين لأنها فاقدة لأساس الوجود تجاه الآخرين.
  • الهوية: وتمثل المعنى السياسي للقيم والحقوق والتاريخ التي تتمثّل من خلاله كل دولة طبيعة التنافس الدولي وأهدافه، فالصين مثلاً –حسب التقرير- ترى نفسها كياناً منسجماً في المنطقة الآسيوية وقادراً على التأثير وعلى الهيمنة لعدّة أسباب تاريخية وثقافية وإيديولوجية، كما ترى روسيا أنها خارج أوروبا ومستقلة عنها فيما تنظر أميركا لنفسها كحامية للقِيَم الليبرالية في العالم.
  • رضى الدولة عن مكانتها في المنتظم الدولي: حيث لا يمكن للدول التي ترى نفسها قد حقّقت مكانتها المرجوّة من الدخول في أيّ سباق، فالتنافس لا يعني شيئاً لأولئك الذين رضوا من الغنيمة بالإياب.
  • مجموعات المصالح المحلية والإيديولوجيات المهيمنة على السياسة الخارجية: حيث تلعب اللوبيات والجماعات الضاغِطة دوراً كبيراً في تحفيز القرارات السياسية الخارجية الداعية إلى التنافس.
  • نظرة الزعماء الحاليين للتنافس: فالطابع الكارزمي للقيادات السياسية ورغبتها في التنافس أو الإحجام عنه، تظلّ مفاتيح مهمة تطبع مجالات التنافس ووسائله المتعدّدة.

محاور التنافُس الدولي:

يحاول التقرير الأميركي

أن يحدّد أهم محاور التنافس بين الدول وذلك من خلال طبيعة ساحة الصراع الدولي نفسها وهواجسها المختلفة:

الأمن والسلطة:

يشعر الواقعيّون بالقلق من أنه حتى عندما تحاول الدول أن تكون آمنة نسبياً، فإن الخطوات التي تتّخذها لضمان أمنها يمكن أن تهدّد من دون قصد دول أخرى، وهي حال تعرف باسم المأزق الأمني ​​. التعاون أكثر خطورة، ومعضلات الأمن تزداد عندما يمكن استخدام نفس الأسلحة والمعدّات بنفس القدر من الكفاءة في العدوان كما في حال الدفاع ، فإن التكاليف المحتملة للتعاون تكون أعلى بكثير. في المقابل، يتم تخفيف المعضلة الأمنية عندما يكون من الممكن التفريق بين الأسلحة الدفاعية والهجومية وعندما تكون الإستراتيجيات الدفاعية مفيدة.

تقدّم الأدبيات المتعلّقة بالبحث عن السلطة والأمن عدّة دروس محتملة للمنافسة الحالية. وبصورة عامة ، تتنافس الدول على القوة الصلبة. في التنافس، ستولي الدول اهتماماً وثيقاً للمكاسب النسبية للخصوم. إن السعي وراء السلطة يؤدّي إلى مُعضلات أمنية، حيث يرى آخرون أن بعض الدول قد اتخذت تدابير معينة لتعزيز سمعتها الأمنية ، الأمر الذي قد  يؤدّي في بعض الأحيان إلى إستجابات تصاعدية.

  • المكانة والهيبة.

إن أحد الاتجاهات الرئيسة في السياسة العالمية اليوم هو العدد المتزايد من الدول التي تؤمن بأن هويتها وقوّتها وتاريخها تؤهّلها لتحمّل دور أكبر في الشؤون الدولية. العديد من الدول الكبرى، لا سيما روسيا والصين ، بل أيضاً حتى  الدول "المضطربة" مثل تركيا والبرازيل وفنزويلا وغيرها ، تستاء من النظام القائم بسبب هيمنة الولايات المتحدة عليه، وتشعر هذه الدول أن النظام الحالي لا يحترم كرامتها بشكلٍ كاف.

  • الإزدهار الإقتصادي المادي والقوّة.

تاريخياً، رغم العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان في الثمانينات و تحالف البلدين عسكرياً وسياسياً حول القضايا الجيوسياسية، رأى بعض الأميركيين في اليابان دولة تداول مفترسة مصمّمة على السيطرة على العديد من الصناعات.

تسعى الدول عادة لتحقيق أهداف اقتصادية ذات آثار محلية:  نسب النمو، البطالة، أو التجارة، لكنها تقوم بتقييم هذه الأهداف مقارنة نفسها مع دول أخرى. وفي الواقع فإن الكثير من التنافس الاقتصادي لا يزال ودياً نسبياً، مع وجود درجة كبيرة من التعاون في القواعد والمعايير. النظام الاقتصادي الدولي لما بعد الحربين يبدو أكثر تنظيماً بسبب توحّده التدريجي حول نموذج مشترك للمنافسة الاقتصادية المعتدلة.

يمكن للمنافسة الدولية الإقتصادية أن تكون أكثر عدوانية. ورغم أن مصطلح "الحرب الإقتصادية" عادة ما يُعبّر عن العمليات العسكرية التقليدية في زمن الحرب، فإنه اليوم يعبّر عن استراتيجيات جديدة للصراع والتنافس، فهدف الصين هو أولاً وقبل كل شيء اقتصادي، وهذا يحقّق مستوى معيناً من التطوّر يكسبها ميزة نسبية تجاه الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا المتقدّمة.

  • الموارد.

تسعى الدول أيضا للسيطرة على الموارد. تقليدياً، عندما شكّلت المواد الخام عنصراً مهماً في سلطة الدولة، كان هذا مصدراً أساسياً للصراع بين الدول،  لكن هذا الوضع تغيّر في السنوات الأخيرة، رغم أنه لازالت في العالم النامي بعض الدول معتمدة على تصدير المواد الخام. لذلك فالمنافسة بين الدول على الموارد لا تزال قضية مستمرة.

  • السيادة والمسائل الحدودية.

تصارعت الأمم تقليدياً على الأراضي والأقاليم بناء على رؤيتها لنطاق سيادتها، إلا أنه يُلاحظ انخفاض حدّة المنافسة الحدودية إلى حد ما في السنوات الأخيرة، بسبب سيادة مفهوم السلامة الإقليمية رغم أنها لازالت حاضرة.

  • القِيَم والإيديولوجيات:

     تمثل القِيَم والإيديولوجيات حسب هذا التقرير عاملاً مهماً من عوامل التنافس بسبب تأثيرها المباشر على تمثّل الدولة لنفسها في الوعي الجمعي وعلى المكانة التي تود الوصول إليها، فالتنافس يعبّر عن عدم رضا تجاه المقارنة بين التاريخ والحاضر أحيانا أو بين الأهداف الإيديولوجية التي تبتغيها دولة كالصين والمكانة الدولية التي تحظى بها حالياً مثلاً.

  • القواعد والنظم والمؤسّسات في النسق الدولي الشامل.

بمرور الوقت ، يزداد غضب القوى العظمى بسبب الهيمنة المؤسّساتية الأميركية على القواعد والنظم الدولية. وعلى نحو متزايد، فإن التنافس في ما يتعلق بقيادة النظام السائد قد يصبح مركزاً على تأسيس بدائل للقواعد والأعراف والمؤسّسات التي يسيطر عليها الغرب في عالم ما بعد الحرب. وتعمل الصين وروسيا على إنشاء مؤسّسات موازية في هذا الإطار.

دعم الولايات المتحدة للثورات الديمقراطية في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، يهدّد كسلوكيات عدوانية استقرار النظام الدولي، رغم ذلك لا يحفل المسؤولون الأميركيون إلى قبول تكافؤ سلوكهم "التنقيحي" لتقدير حقيقة أن الدول المتنافسة الرئيسة ترى الخطاب والسلوك الأميركيين تهديداً محتملاً.

فرضيات:

في مقابل المحاور التنافسية، يقدّم التقرير مجموعة من الفرضيات المستخلصة من هذا التشخيص :

  • المنافسة لن تكون بين جميع الدول غالباً، بل فقط بين مجموعة منها.
  • المنافسة الأساسية ستكون بين مهندس النظام العالمي: الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى، خصوصاً مع تصاعد النزعة النديّة للصين. ورغم الطابع السلمي لهذه المنافسة إلا أن العوامل الإجتماعية والأيديولوجية وتصوّرات الهوية قد تفتح سيناريوهات الصراع.
  • صعود أشكال متعدّدة من التنافس تستوجب إستراتيجيات متعدّدة لا استراتيجية واحدة.
  • إدارة الصراعات الإقليمية من طرف أميركا من دون خوضها.
  • في الوقت الحالي يركّز التنافس على الطموحات والمظالم وعلى الازدهار الإقتصادي والميزة التكنولوجية والنفوذ الإقليمي بدلاً من الغزو أو اللجوء المعتمد والمقصود إلى الحرب الواسعة النطاق.

قد يكون الهدف الرئيس هو البحث عن استعادة المكانة الوطنية للدولة في السياسة العالمية.

  • التنافس سيكون أساساً في مجالات غير عسكرية ذات فائدة وطنية ( التكنولوجيا- الإقتصاد)
  • ضرورة تنسيق الولايات مع حلفائها الأيديولوجيين.
  • الدول المستبدّة تسعى لتقوية نفوذها خارج أرضها، وتوظيف وسائلها الاقتصادية والدبلوماسية في الصراع.
  • المرحلة الجديدة ليس فيها رابح ولا خاسِر بقدر ما فيها تنافس أو تعاون. فالفوز يعني أن هناك وقتاً لنهاية الصراع أو رهانات يجب تحقيقها بينما التنافس تدافع مفتوح النهايات.

خلاصات:

يمثّل هذا التقرير توصيفاً جديداً لطبيعة العلاقات الدولية كما يتصوّرها الأميركيون، ويخلص قارئ التقرير إلى هذا التوجّس الكبير الذي أصبح ينظر به الأميركيون تجاه التوسّع الصيني الهادئ والقوي.

ويبدو أن هناك قناعة متزايدة لدى الخبراء الأميركيين في أن السنوات المقبلة ستكون سنوات " الحرب الإقتصادية بلا منازع". الحرب الإقتصادية Economic warefare ، لا بالمعنى التقليدي للحرب العسكرية التي توظّف الإقتصاد في جانب منها، لكن بمعنى التنافس السلمي على المكانة والريادة العالميتين التي أصبحت تهدّدهما إقتصادياً القوى الإقليمية الصاعدة في الشرق والغرب. التنافس الثقافي والإقتصادي الذي يستلهم من التاريخ والهوية ومن توجّهات القادة السياسيين ومن التسارع نحو السيطرة على الأسواق والموارد الطبيعية، يجعل أميركا أكثر إصراراً على حماية نظامها الإقتصادي وقيمها الليبرالية.

إيران وتركيا:

يبدو أن السياسات التركية والإيرانية هدّدت إلى حد كبير المكانة والوضع الأميركي في المنطقة، ويبدو أن الصراع حول القيم الليبرالية الجديدة الذي تدعمه أميركا  من خلال السعودية الذي يمثل وجهاً آخر لمنافسة تركيا وإيران.

من جهة أخرى تبرز التوجّهات الجديدة لإيران، التي عزّزت دعمها الإقتصادي للميزانية عن رغبة أكيدة في الولوج لعصر التنافس الإقتصادي في زمن الصفقات حيث تمثّل دول الخليج في هذا السياق القفّاز الإسلامي لمشاريع البترودولار الأميركي الذي تنافس به الولايات المتحدة هذه القوى الصاعدة.

من جهة أخرى لا تبدو سياسات إيران بعيدة كل البُعد عن السياق الجديد الذي توطّئ له الولايات المتحدة في العالم والذي أسهمت الصين إلى حد كبير في فرضه على أنماط الصراع. لقد اكتشفت  و.م.أ أن إصرارها على البقاء في زعامة "العالم الحر" سيكلّفها الكثير مقابل المنافع التي يحظى بها منافسوها وهم متحرّرون من القيود والأثقال التي تفرضها هيبة ومكانة العم سام.

إيران وروسيا والصين ودول أخرى بما فيها تلك المحسوبة على المحور الأميركي كتركيا وألمانيا أصبحت تبحث عن تعزيز وضعها ونفوذها في هذا السياق أيضاً. إن أميركا اكتشفت أنها ستخسر على المدى البعيد مكانتها إن تركت خصمها الصيني خارج التبعات.

إسرائيل:

لا يرضى الكيان الصهيوني عموماً عن الصبغة التنافسية التي تتّجه نحوها الولايات المتحدة، لكن عموماً سيظل الطابع التكاملي بين سياستي الدولتين حاضراً بقوة.

فور إنسحاب الولايات المتحدة من سوريا، ذكر نيتنياهو بوجوده العسكري في المنطقة من خلال قصفه المباشر، فإسرائيل ترى أن الصراع مع إيران ومحور الممانعة لا يرتبط بالمصالح الإقتصادية أو مناطق النفوذ بقدر ما يرتبط بعوامل عقدية يجب كسرها بالقوّة.

وظّف نيتنياهو التطبيع الإقتصادي لجرّ الخليجيين نحو الإعتراف بالقدس وإعلان الخفيّ من العلاقات، لكن في نفس الوقت يبدو أن الرغبة الصهيونية في إحتلال الأردن والتواجد بشكل مباشر في المنطقة الخليجية لازال لازمة واضحة في استراتيجيات السياسات الإسرائيلية التي تقدّم نفسها كمنافس إقليمي على النفوذ ضد كل من إيران وتركيا.

إفريقيا والمنطقة المغاربية:

يبدو الدور الإقتصادي الألماني واضحاً في المنطقة بتعيين الرئيس الألماني السابق كوهلر مبعوثاً شخصياً للأمين العام في الصحراء الغربية وعنواناً لدخول منافس جديد لفرنسا في القضية وفي مصير أفريقيا الفرنكفونية في زمن السلم الإقتصادي. من جهة أخرى ركّز جون بولتون في خطاب برغماتي صريح  حول مشروع " إزدهار إفريقيا"، على شعار أميركا أولاً في المنطقة، وأكّد أن "كل ما نريد القيام به في الصحراء الغربية هو إجراء استفتاء على 70،000 ناخب. بعد 27 عاماً ، لا يزال وضع الإقليم غير محسوم ... أليس هناك طريقة لحل هذه المشكلة".

 يعكس التبرّم الأميركي هذا عن عدم الرضا عن جهود الأمم المتحدة، فالإستراتيجية الجديدة في أفريقيا جعلت منها ساحة تنافس أساسي ضد الصين وروسيا، بل وحتى تجاه دول صديقة كفرنسا مثلاً.

زمن الصفقات الذي أعلنه ترامب من الرياض، تعلنه اليوم أميركا في القارة السمراء التي يرى الكثير من الخبراء الإقتصاديين أن أوان التوجّه نحوها كسوق إستهلاكي وكمجال نفوذ إقتصادي قد آن، خصوصاً مع تطوّر البنيات التحتية لبعض الدول كجنوب أفريقيا وكينيا وإثيوبيا.

بين المغرب والجزائر لا زال الصراع على النفوذ في إفريقيا محتدماً، ومثلّت صفقات الغاز الأخيرة التي تمّ توقيعها في الرباط والجزائر مع نيجيريا وجهاً واضحاً لهذا التنافس الذي ربما يبحث فيه كل من البلدين من خلال الموارد الخام (الفوسفاط والبترول) والإستثمارات المشتركة مع دول أفريقيا وفي أسواقها إنهاك نفسه في إثبات مكانته تجاه الآخر، في زمن غياب المشروع المغاربي المجهض.

أحمد فال السباعي، باحث متخصص في الدراسات الاستراتيجية في المغرب

قراءة 1092 مرة