هل فعلت الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط من دعم قوي للحكام المستبدين، والاجتياحات العسكرية، وعمليات القصف، والعمليات الخاصة، وتدمير البنى التحتية، ومقتل ما يزيد عن مليون مسلم أي شيء جيد لصالح المنطقة خلال العقود الماضية؟
كتب الباحث الأميركي غراعام فولر، وهو مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مقالة حول جدوى استمرار السياسة الخارجية الأميركية القائمة على الهيمنة والتدخل العسكري في جميع أنحاء العالم، منتقداً إنفاق هذه الموازنة الهائلة على الحروب والتسلّح ونشر القوات الأميركية في مناطق مختلفة على حساب تدهور البنى التحتية الأميركية وغياب الصحة والتعليم العالي المجانيين واستدامة التنمية وتطوير العلوم المدنية وترسيخ الوئام الاجتماعي، معتبراً أن بعض قرارات الرئيس دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا ولاحقاً من أفغانستان، رغم معارضة بيروقراطية النخب الحاكمة في الدولة العميقة، تؤشر إلى بداية تراجع الهيمنة الأميركية ونهاية نظام الأحادية القطبية. والآتي ترجمة كاملة للمقالة:
إذا كان ظهور قوى قوية جديدة مثل الصين يشكّل تحدياً للنظام الجيوسياسي الأقدم الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية، فماذا عن العكس؟ إن التحدي الذي يواجه النظام الدولي الناشئ عن قوة عظمى متراجعة وغير منتظمة يتعارض أكثر مع نظام جديد ناشئ، حتى من دون الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟
تكشف عناوين الأخبار الرئيسية كل يوم عن إحساس بتفكك السلطة والتأثير الجيوسياسيين الأميركيين. ويرجع بعض ذلك إلى الارتفاع الطبيعي للدول الأخرى مثل الصين وروسيا والهند وتركيا والبرازيل كلاعبين مهمين جدد. لكن الكثير منه يرجع أيضاً إلى انهيار منطق الإمبراطورية الأميركية، والخطايا الهائلة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية في العقود الثلاثة الماضية، والحرمان الوحشي الذي أفضت به هذه الحروب الخاسرة على النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأميركي، هذا دون أن نذكر ضحايا تلك الحروب في الخارج.
تميل الطبيعة الزئبقية والكارثية نفسها لسياسات كثيرة لإدارة ترامب إلى إخفاء الجذور العميقة لهذا الانحدار الذاتي. كم هو سهل، وحتى كم هو مريح، وخطير في النهاية، رمي كل شيء على شخصية دونالد ترامب. هذا التركيز على إخفاقاته الشخصية يعزز الوهم بأن ترامب نفسه هو في الأساس المشكلة وأن رحيله سيؤدي بالتالي إلى إصلاح هذه المشاكل. لا لن يؤدي إلى ذلك. إن جذورها أعمق بكثير من ذلك.
في السياسة الخارجية، تعود آثار هذه المشكلات على الأقل إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وما يسمى بـ"لحظة القطب الأحادي" عندما اعتنقت الولايات المتحدة فكرة أنها أصبحت الآن القوة العظمى الوحيدة في العالم، القادرة على تأسيس هيمنة عالمية طويلة الأمد بلا منازع. هل تتذكرون كيف كان ذلك بمثابة تبشير بـ"القرن الأميركي"؟
لا يزال معظم نخبة السياسة الخارجية الأميركية يجسّدون هذه المفاهيم. إنهم يرون أن الهيمنة الأميركية هي الحالة الطبيعية للأمور، وربما حتى هي هبة من الله؛ وأن أية آراء تعمل ضد هذا الاعتقاد غريبة، وساذجة حول طبيعة العالم، وغير مقبولة أيديولوجياً، أو حتى خيانة.
ونحن نرى هذا في وجهات نظر النخبة في جميع أنحاء وسائل الإعلام الرئيسية بدءاً من اجتماع ترامب مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في أوائل عام 2018. نرى ذلك في الأصوات المتحمسة التي تغني عن ترنيمة مؤسسة السياسة الخارجية ضد قرار ترامب بسحب القوات الأميركية المتبقية من سوريا. أو في أي محاولة للتغلب على التدهور الخطير في العلاقات الأميركية مع موسكو - حيث تجد واشنطن أنه من غير المتصور أن أي عنصر من سياساتها يمكن أن يكون له أي تأثير سببي على مثل هذا التدهور.
الآن، أنا على دراية تامة بجهل ترامب بالشؤون الخارجية، من بين العديد من أوجه القصور الأخرى. وعادة ما يتم التشهير على نطاق واسع باجتماعه مع زعيم كوريا الشمالية بكونه غير منتج وساذج. بالتأكيد لن يكون هناك أي نزع كبير للتسلح النووي من قبل كوريا الشمالية في المستقبل القريب، لكن شبه الجزيرة الكورية قد تغيرت بشكل ملحوظ. أصبحت العلاقات بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية اليوم مختلفة إلى حد كبير عما كانت عليه في العام الماضي. لقد أفسح التراشق الكلامي والتهديد بالتبادل النووي المجال للتقارب الحذر بين الدولتين. تأخذ كوريا الجنوبية بعض المخاطر المحسوبة في هذه العملية، ولكنها تسير بخطى حثيثة حذرة ولكن بموافقة عامة إلى حد ما. بدأت شبه الجزيرة الكورية تنعم بالهدوء.
ماذا عن الجانب السلبي؟ من المؤكد أن الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية سينتهي إذا استمرت الأمور بالسير على ما يرام بين الكوريتين. ستفقد الولايات المتحدة قاعدة جيوستراتيجية رئيسية في شرق آسيا. لكن بالنسبة للكوريين، وفي الحقيقة بالنسبة لمعظم العالم، هل ينبغي النظر إلى الخطوات الكورية نحو التطبيع وربما إعادة توحيد الدولتين في نهاية المطاف كخطوة سلبية؟ ربما يكون الأمر كذلك في نظر نخب السياسة الأميركية التي لا تزال تتشبث بوهم الإشراف الأميركي الدائم على الجغرافيا السياسية العالمية، حتى على عتبة باب الصين.
هناك بالطبع العامل الياباني. من المرجح أن تصل طوكيو إلى الحد الأدنى من الاستنتاج بأنها ستحتاج إلى تحسين وتعميق علاقاتها الثنائية مع الصين بدلاً من الاعتماد في العقود المقبلة على الاختباء وراء التنورات الاستراتيجية الأميركية.
لكن أليست اليابان، وهي دولة قوية في حد ذاتها، متجهة إلى التصالح مع الواقع الصيني بشروطها الخاصة؟ هل يجب على الولايات المتحدة أن تبقى منخرطة بشكل دائم في العمل ضد تطور علاقات قوة إقليمية "طبيعية" أكثر في شرق آسيا؟ هل تلتزم السياسة الخارجية الأميركية بشكل دائم بصيانة الصراعات الدولية والتلاعب بها؟
إن سوريا هي أحدث قضية ساخنة في واشنطن حيث يبدو أن المحافظين ومعظم الليبراليين والمحترفين في السياسة الخارجية يتوحدون في إدانة قرار ترامب بسحب العدد القليل من القوات الأميركية من المستنقع السوري. لكن هل يساهم الوجود العسكري الأميركي في سوريا في الواقع في تسهيل استعادة السلام تدريجياً في سوريا وإنهاء القتل وإنهاء تدفقات اللاجئين؟ لكن ما هي عناوين الأخبار الرئيسية التي نراها عن الموضوع؟ "هدية ترامب لبوتين في عيد الميلاد"، "الولايات المتحدة تخسر مكانها في سوريا"، "من خسر سوريا؟"، "إيران وروسيا هما الفائزان الكبيران في سوريا" وغيرها من القصص التي تهيمن على التعليق الأميركي السائد.
وللأسف، فإن الكثير من العداء للانسحاب السوري يعتمد على المعارضة السياسية التلقائية لأي شيء يفعله ترامب، من أجل إضعافه. آخرون يتحسرون على هذه الخطوة الإضافية بعيداً ولو لمرة واحدة عن موقع أميركي مهيمن في الشرق الأوسط. ومع ذلك، يجب أن نسأل ما إذا كانت الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط - وهي تشمل تقديم دعم قوي للحكام المستبدين، والاجتياحات العسكرية، وعمليات القصف، والعمليات الخاصة، وتدمير البنى التحتية، ومقتل ما يزيد عن مليون مسلم - قد فعلت أي شيء جيد على الإطلاق لصالح المنطقة خلال العديد من العقود الماضية. في أحسن الأحوال تخدم هذه السياسات الآن الأهداف السياسية السيئة لـ"إسرائيل" والمملكة العربية السعودية. هل نؤمن حقاً بأن إيران وتركيا وروسيا والصين يمكن استبعادها بشكل دائم من الأدوار كلاعبين إقلميين رئيسيين هناك؟ هل كل شيء يجب أن يكون حرباً بالوكالة؟
قد تكون أفغانستان المنطقة التالية للانسحاب الأميركي. فأطول حرب في التاريخ الأميركي لم تؤدِ إلى أي مكان. هل لدى الولايات المتحدة حقًا مهمة وطنية للوقوف كحارس في أفغانستان إلى الأبد؟ تذكروا: على الرغم من أن السبب الظاهري لغزو أفغانستان كان تدمير تنظيم "القاعدة" – الأمر الذي لم يحدث أبداً - كان الهدف الجيوسياسي الحقيقي هو إقامة قواعد عسكرية أميركية في قلب آسيا على عتبة روسيا والصين. (هل يمكننا تصوّر رد الفعل الأميركي على الجهود الروسية أو الصينية لإنشاء قواعد عسكرية في الدول المجاورة للولايات المتحدة؟)
سيواجه البعض مشكلة في وجهات نظري هنا. إنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة، باعتبارها "أمة استثنائية"، لديها الحق، لا بل الواجب، للخدمة، إلى أجل غير مسمى، ودون أي تحدٍ، كشرطي للعالم. ("جلب الديمقراطية إلى العالم" هو التوصيف المفضل).
ولكن حتى يتسنى منح هؤلاء النقاد ما يستحقونه، فهناك بالفعل مسألة جيوسياسية مشروعة وأعمق يجب طرحها هنا - بما في ذلك فهم المرء لطبيعة السياسة الدولية. هل يتطلب النظام العالمي حضوراً دائماً لنوع من الشرطي؟ إذا كانت الإجابة بنعم، إذن في حالة تنازل الولايات المتحدة أو عجزها عن العمل كشرطي عالمي، هل يجب على دولة أخرى أن تحتل مكانها؟ أم يجب أن يكون هناك شرطي عالمي أصلاً؟ في الواقع، هل إن تطور النظام الدولي المتعدد الأقطاب هو المستقبل المحتوم والمرغوب للنظام الدولي؟
إنني أرى احتمالاً ضئيلاً لتخلي الولايات المتحدة عن دورها الذي عينته لنفسها كشرطي عالمي لفترة طويلة قادمة، حتى مع مؤسس سياساتها. للأسف ، يبدو الأمر كما لو أن الولايات المتحدة في طريقها إلى إلحاق ضرر جسيم بنفسها، كما فعلت روما وبريطانيا والعديد من الإمبراطوريات الأخرى من قبل، من خلال استنزاف دمائها وثروتها في تدخلات عسكرية دولية عقيمة –أعلنت أنها جميعها "ضرورية". إن تكاليف الميزانية العسكرية الأميركية - أكبر من الدول الخمس القادمة مجتمعة - تسرق الأموال التي ينبغي أن تذهب إلى معالجة تدهور البنية التحتية الأميركية، والنقل العام، وتوزيع الدخل المستدام، وتخفيض حادًا في القوة السياسية لـ"المجمع الصناعي العسكري"، والرعاية الصحية، وبناء العلوم المدنية، والتعليم العالي المجاني، وتعزيز الوئام الاجتماعي. ويبدو أن الصين نفسها تستثمر بكثافة في العديد من هذه المجالات المنتجة اجتماعياً حتى بينما تفضل الولايات المتحدة وضع أموالها في بناء تحالفات جيوسياسية والاستعداد للصراع.
لماذا عدد قليل جداً في الداخل يتحدى وجهة النظر القائلة بأن مهمة الولايات المتحدة في العالم هي التدخل في أي مكان، وفي كل مكان، وفي كل وقت، وفي المقام الأول لمصلحة الحفاظ على الهيمنة الدولية للولايات المتحدة؟ يبدو أننا نتردد في الاعتراف بأننا نعيش في عالم أكثر تعقيدًا يتطلب تقاسم المسؤوليات الدولية. هل يمكننا حقاً أن نعتقد أن مستقبل السياسة الأفغانية يهم الولايات المتحدة أكثر ما يهم جيران أفغانستان المباشرين، الصين وباكستان وإيران والهند؟ وهل "الحرب الدائمة" والتدخل العسكري الدائم هما السبيلان إلى إبقاء أميركا عظيمة؟
يمكننا المجادلة حول التفاصيل، والنص الدقيق، وتوقيت فك الارتباط التدريجي من عدد كبير من النزاعات الدولية. ومع ذلك، وعلى الرغم من الضعف الذي قد يعتري إدارة ترامب وأسلوبها، ربما يتعين علينا أن ندرس بعناية ما إذا كانت واحدة على الأقل من غرائز ترامب الافتراضية - أي الانفصال الأميركي التدريجي عن الالتزامات العسكرية الأميركية المتعددة خارج البلاد والتي لا تنتهي - قد يكون لها بعض الجدارة. يجب أن تتكون السياسة الخارجية من شيء أكثر من مجرد تحديد هوية الأعداء، وتصورات "التهديدات" - وهي صناعة خاصة طويلة الأمد ومكلفة في واشنطن.
ومن المفارقات بالنسبة إلى ترامب، فإن بعض غرائز سياسته الخارجية القاصرة تتم مشاركتها ضمن ما يصل إلى "اليسار الأميركي". مهما يفعله ترامب في هذا المجال، وعما إذا كان مسموحاً له القيام بذلك من قبل بيروقراطية السياسة الخارجية الراسخة، فإنه من المرجح أن يستغرق أكثر من جيل واحد لفطم تلك المؤسسة القوية، أو "الدولة العميقة"، بعيداً عن التدخل الأميركي الانعكاسي. لكن ربما نشهد بداية ذلك.
غراهام إي فولر
هو مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ومؤلف العديد من الكتب حول العالم الإسلامي.
ترجمة: الميادين نت