كانت مخاوف الغرب من الثورة الإسلامية مُحقّة تماماً ذلك أن هذا البلد يحتفظ بموقعٍ استراتيجي من الدرجة الأولى، فهو يمتد على مليون و600 ألف كلم مربع أي أكبر من مساحة فرنسا ب 3 مرات، ويحتفظ بديموغرافيا شبابية ضمن 80 مليون نسمة. ويحتل موقعاً مركزياً في مضيق هرمز حيث يمر شطرٌ أساسيٌ من النفط إلى الأسواق العالمية، ويمتلك الإحتياط الرابع للنفط في العالم واحتياط الغاز الثاني في العالم أيضاً.
كانت الثورة الإسلامية التي اندلعت في إيران قبل أربعين عاماً، أشبه بزلزالٍ ضرب على حين غرّة، العلاقات الاقليمية والدولية المّتصلة بهذا البلد. كان العالمُ مازال بعد في خضمّ الحرب الباردة حيث كان من المُفترض أن تكون هزيمة الولايات المتحدة والغرب في أحد أهم معاقله في الشرق الأوسط، انتصاراً للإتحاد السوفياتي، لكن موسكو الشيوعية لم تر الثورة الخُمينية من هذه العين، وإنما من عين حَذِرة، بل خائفة من تصدير الثورة إلى جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة وإلى الجمهوريات الأخرى في الشيشان وداغستان وغيرها. من دون أن ننسى تورّط موسكو في أفغانستان وحربها الضروس على الجماعات الإسلامية المسلّحة. يجدر التذكير فقط على أن الحدود الإيرانية مع تركمانستان (الشيوعية في حينه) تصل إلى 1300 كلم وأن طاجيكستان تتحدّث الفارسية في حين تترامى آذربيجان على طرفي الحدود، والآذرية هي اللغة الثانية في إيران بعد الفارسية، هذا إذا أردنا أن نُهمل التأثير الإيراني في بحر قزوين، والدعم الإيراني اللوجستي للمقاومة ضد الاحتلال السوفياتي وتخصيصه في ما بعد لتحالف الشمال بقيادة المقدّم الراحل مسعود الذي كان يتحدّث الفارسية.
كانت مخاوف الغرب من الثورة الإسلامية مُحقّة تماماً ذلك أن هذا البلد يحتفظ بموقعٍ استراتيجي من الدرجة الأولى، فهو يمتد على مليون و600 ألف كلم مربع أي أكبر من مساحة فرنسا بـ 3 مرات، ويحتفظ بديموغرافيا شبابية ضمن 80 مليون نسمة. ويحتل موقعاً مركزياً في مضيق هرمز حيث يمر شطرٌ أساسيٌ من النفط إلى الأسواق العالمية، ويمتلك الإحتياط الرابع للنفط في العالم واحتياط الغاز الثاني في العالم أيضاً.
مخاوِف الغربيين من الثورة الإسلامية لم تتأخّر براهينها. فقد صرّح الإمام الخميني في العام 1979 أن حياة الرئيس المصري أنور السادات الذي وقَّع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل ستكون قصيرة، فاغتيل بعد سنتين من هذا التصريح وعُمِّدَ إسم قاتله الإسلامبولي في أحد شوارع طهران الرئيسية، لذا وضع الغرب منذ الشهور الأولى لخلع الشاه أقصى طاقته لاحتواء أو وقف أو الإطاحة بهذه الثورة، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية وصولاً إلى الحصار الإقتصادي لقتل الثورة من الداخل، مروراً بتركيز قواعد عسكرية أميركية لتطويق إيران: في سلطنة عُمان والبحرين والكويت والسعودية والإمارات وقطر فضلاً عن تركيا واليوم في أفغانستان والعراق وإسرائيل، أضف إلى ذلك مسلسل الإغتيالات لعددٍ من قادة الثورة في طليعتهم الرئيس الأسبق بهشتي ووزراء في حكومته وقادة كبار. سوى أن ذلك كله لم يعترض بنجاح زخم الثورة التي حافظت على شعارها الرئيسي في العلاقات الدولية "لا شرقية ولا غربية" وواصلت في الداخل تطبيق الشريعة الإسلامية بقدرٍ عالٍ من التكيّف والإجتهاد ولم تستبعد الأخذ ببعض القوانين والأنظمة الغربية.
ستتغيّر من بعد علاقات إيران مع روسيا الإتحادية التي زوّدت طهران بمفاعل بوشهر النووي وعقدت معها اتفاقات أمنية وإقتصادية وصولاً إلى الشراكة الراهِنة في الدفاع عن سوريا، في حين ظلّت العلاقات الإيرانية الأميركية سيّئة حتى اللحظة باستثناء آخر سنتين من عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
أدركتْ الثورة الإيرانية منذ اللحظة الأولى لإنطلاقتها، أن الغرب يقدِّم الحداثة في العالم بوصفها الطريق الغربي للتنمية والثورة التكنولوجية، بكلامٍ آخر لكي تنمو البلدان وتَتَحدّثْ يجب أن تكون على صورة الغرب، وتعتمد قِيمَه وقوانيَنه وثقافته. هذا الإدراك كانت تعترضه أمثلة مُضادّة تماماً، فالنمور الآسيوية لم تَنمُ إلا بعد أن تخلّتْ عن الليبرالية والفردنة. "لقد نمت سنغافورة خلال جيل واحد بالإستناد إلى قِيَمها وثقافتها وعلاقاتها الإجتماعية الأصلية" بحسب مُحلّل غربي، ويتّضح من المِثال السنغافوري ألا تعارض بين التمكّن من التكنولوجيا والعلاقات المحلية الأصلية بل ربما يكون هذا التكامُل شرط التقدّم.
يقع هذا الاعتقاد موقع حجر الزاوية في الثقافة الإسلامية الإيرانية، لذا نرى اليوم أن حجم التعليم في إيران يصل إلى ما يُقارب المئة بالمئة وهناك حوالى أربعة ملايين ونصف المليون طالب في الجامعات الإيرانية ، في حين كان عدد الطلاب في عهد النظام الشاهنشاهي "الحداثوي الغربي" 175 ألفاً. وتفيد التقارير الدولية أن الناس في أقاصي الأرياف الإيرانية يمكنهم الذهاب إلى الطبيب وإرسال أبنائهم إلى المدرسة وهذا لم يكن مُتاحاً قبل الثورة، وهو غير مُتاح في الكثير من الدول التي تعتمد قواعد الحَداثة الغربية. ومن التعليم خرجت أساليب التحكّم بالتكنولوجيا النووية وبصناعة الأسلحة والسيارات وغيرها ، وكل ذلك تحت الحصار الأميركي ووسط صعوبات شديدة لم تتراجع منذ أربعين عاماً.
لكن الثورة الإيرانية المستقلّة صادفت أيضاً إخفاقات كثيرة من بينها تجربة الإقتصاد الإسلامي والبنوك الإسلامية التي ربما تحتاج إلى سيطرةٍ تامةٍ على الأسواق العالمية. وتعتمد طهران اليوم أنظمة مصرفية دولية، كما أنها تَخلَّتْ عن تصدير الثورة إلى الخارج وعادتْ إلى التقليد الإيراني القاضي بانتهاج سياسةٍ دفاعيةٍ وبلا نزعة امبراطورية كما هي الحال بالنسبة إلى تركيا.
السؤال الكبير المطروح بعد أربعين عاماً هو: هل ستشهد إيران ثورة ضد نظام ولاية الفقيه؟ وهل يمكن تفسير الإضرابات المليونية التي اندلعت في عهد أحمدي نجاد بوصفها دليلاً على ثورة مكتومة ستنفجر ذات يوم ضد النظام الإسلامي الإيراني؟ وهل يمكن لهذه الثورة أن تنطلق من" المسافة الفاصلة بين القادة وعامة الناس" على حد تعبير الرئيس روحاني"؟ هل يمكن لإيران أن تعود إلى الوراء؟
من الصعب توفير إجابة قاطِعة عن هذا السؤال، بَيْدَ أن نظرةً خاطفة على البدائل المطروحة للنظام الحالي تفيد بأن النظام أفضل من معارضيه، فما الذي يمكن أن يحمله الوريث الشاهنشاهي علي رضا بهلوي لمجتمع إيراني لم يعرف أكثر من ثلثيه قِيَماً أخرى غير قِيَم الثورة الإسلامية وثقافة سياسية راسِخة استناداً إلى قاعدة " لا شرقية ولا غربية " التي تشدّد على السيادة وقَهْر التبعيّة. يحمل وريث الشاه الماضي الشاهنشاهي "الملعون" يومياً في جعبته وبالتالي لا يمثل ملايين المتظاهريين المذكورين أعلاه. ومن الصعب الرِهان على معارضي الخارج الآخرين الذين شاخوا وشاخت شعاراتهم والمتوقّع ألا تمثيل يُذكَرُ لهم داخل البلاد.
بالمقابل من المُرجّح ان تنحصر الإحتجاجات والإنتفاضات الداخلية في إطار أجنحة الجمهورية الإسلامية نفسها، كما رأينا في انتخاب خاتمي أو روحاني ومن قبل رفسنجاني مقابل أحمدي نجاد. فإذا كانت المسافة معتبرة بين "القادة وعامة الناس" على ما يذكر روحاني، فإنه هو نفسه يتعهّد بتقليصها ضمن النظام الإسلامي الذي بات يمتلك دعائم قوية في أرض الجمهورية الإيرانية.
فيصل جلول، باحث لبناني مقيم في فرنسا