وعلى الرغم من "ركاكتها" البادية للعيان فإن قمّة وارسو تحتاج إلى قراءة متأنيّة لمعرفة التموضع الجديد الذي تأتي به إلى الشرق الأوسط، وللوقوف على الإحتمالات أو الإفتراضات التي تحملها في المقبل من الأيام.
ربما لا يعرف بنيامين نتنياهو أن وزير الخارجية اليمني الذي جلس بالقرب منه وقدّم له الميكروفون في قمّة وارسو، سيصبح من الآن فصاعداً شخصاً غير جدير بالمُصافحة من طرف الأغلبية الساحقة من اليمنيين. سيقولون له نخشى من مصافحتك كي لا نصاب بسوء الطالع من أثر اليد التي صافحت بها رئيس الوزراء الصهيوني.
معروفٌ أن المملكة العربية السعودية هي التي صافحتْ بطريقة غير مباشرة ، اليد الإسرائيلية، عبر اليماني المسكين، للقول أولاً أنها جادّة في تأسيس حكم يمني مُصافح للصهاينة ومُحب لهم ، وللقول ثانياً أن دعمها في الفوز بالحرب اليمنية سيكون له هذا المعنى بين معانٍ أخرى شديدة السوء.
لا نحتاج لجهد كبير للقول بعد قمّة وارسو أن "مُصافحة اليماني ــــــ نتنياهو" هي النصر الإسرائيلي الأكبر وبالتالي لا قيمة استراتيجية كبيرة يمكن توقّعها من هذا الجانب. ممثلو الدول العربية الأخرى ظلّوا بعيدين عن الواجهة كعادتهم، فهم يدركون أن شعوبهم ستلعنهم إن صافحوا ، وأن عليهم أن يبقوا علناً على الأقل خارج اللقطات الحميمة مع هذا الرجل القبيح. لا بل إن المملكة العربية السعودية كانت حريصة على استباق القمّة بالقول إنها تنظر إلى حل القضية الفلسطينية عبر بوابة "رام الله" وليس عبر صفقة القرن كما يريد نتنياهو.
وعلى الرغم من "ركاكتها" البادية للعيان فإن قمّة وارسو تحتاج إلى قراءة متأنيّة لمعرفة التموضع الجديد الذي تأتي به إلى الشرق الأوسط، وللوقوف على الإحتمالات أو الإفتراضات التي تحملها في المقبل من الأيام.
الرد على السؤال الأول ليس صعباً فقد شهدت وارسو قمّة للدول الخائفة أو "المرعوبة" من الإنسحاب الأميركي من سوريا ومن إحتمال ألا تتدخّل واشنطن لحمايتها من المدّ العربي ـــ الإيراني الذي ما برح يتقدّم عاماً بعد عام والقادر على الدفاع بجدارة عن المواقع التي وصل إليها أو تلك التي يتحكّم بمسارها عن بُعد. والملاحظ أن الخوف يشمل الدول الخليجية التي نشأت في سياق أو بُعيدَ سايكس بيكو فضلاً عن الأردن، في حين يبدو الحضور المصري والمغربي في القمّة من باب التعاطف الفاتِر أو الحضور المُجامٍل، وأن البلدين لا نيّة لهما لتنظيم جبهة أو الإنخراط في مشروع قتالي ضد إيران، ما دام الهدف المُعلَن من هذه القمّة هو محاربتها.
لقد نشأتْ دول قمّة وارسو العربية برعاية بريطانية بُعيدَ الحربين الأولى والثانية، لكن بريطانيا تراجعت عن حمايتها بسبب تقدّم الولايات المتحدة الأميركية التي قررت بعد حروب العراق وأفغانستان وسوريا ألا جدوى من وجودها في الشرق الأوسط . وبما أن بريطانيا باتتْ قوّة ضعيفة وغير جديرة بالحلول محل واشنطن، فقد ارتأى نتنياهو أنه سّيد المنطقة وأن عليه أن يلعب الدور الذي لعبه "لورانس" من قبل وأن يستخدم حججه بإقامة مملكة عربية جامعة بزعامة آل سعود هذه المرة بدلاً من الهاشميين في المرة الأولى. وبما أن القمّة لا تعد بحل ناجح للقضية الفلسطينية ولا تنطوي على حل عسكري ناجح للحرب اليمنية فأنها ستقتصر على حماية إسرائيل من المد الإيراني الذي وصل إلى العراق وسوريا وغزّة وجنوب لبنان ، فهل يمكن حمايتها وكيف؟؟ من هذا السؤال ننتقل إلى الاحتمالات التي قد تحملها هذه القمّة ويمكن حصرها في خطوط ثلاثة.
أولها أن تُنصِّب إسرائيل زعامتها على المنطقة عبر حرب طاحنة هذه المرة على إيران تلحق بواسطتها أذى كبيرا بهذا البلد وتستدرج تغيير النظام فيه وحمله على التراجع إلى داخل الحدود الإيرانية ، وبالتالي إحداث تغييرات جوهرية في لبنان وسوريا والعراق وضمّها إلى المحور الصهيو خليجي. وإن تم لها ذلك فإنها ستعيد رسم الجغرافية السياسية للمنطقة لمدة قرن مقبل.
يمكن لإسرائيل أن تستند في هذه الحرب إلى رئيس أميركي " مخبول وبلطجي " يقدّم لها المساعدة ويعينها في التصدّي لإجتياح عربي ــــ إيراني لكافة أراضيها اذا ما تجرّأت على قصف المواقع الإيرانية الاستراتيجية. أو تتدخّل أميركا والمجتمع الدولي عموماً لوقف الحرب بعد تصدّع إيران وحصر تأثيرها داخل حدودها. لا معنى كبيراً لقمّة وارسو إن لم يكن هذا هدفها لكن هل تتصدّع إيران ؟ وهل تقف الحرب عند الحدود التي تريدها إسرائيل وأميركا ؟ وهل التهديد باستخدام النووي الصهيوني يوقف الحرب عند النقطة التي تريدها تل أبيب؟ هذه الأسئلة تنطوي على أجوبة إيرانية حاسمة مفادها أن الصراع مع إسرائيل هو قضية حياة أو موت بالنسبة لها ولا شيء حتى النووي، يمكن أن يحمل الإيرانيين على الركوع والإنصياع للإرادة الإسرائيلية في المنطقة ، علماً بأن النووي الإسرائيلي لا يضمن بقاء الدولة العبرية بل ربما يسهل زوالها .
الاحتمال الثاني هو أن تكون قمّة وارسو دفاعية أو قمّة الخائفين المردوعين.. وبالتالي أن تحمي إسرائيل ودول الخليج من المد الإيراني، وربما التركي من بعد، فهذه الدول كانت على الدوام تحتاج إلى ضمانات أمنية من دول عظمى وبما أنها تجتمع مع إسرائيل في سيرورة أمنية واحدة فإنها ترى في العمل معها بديلاً أساسيا يعوّض التراجع الأميركي في المنطقة لكن حتى يتاح لهذه الفرضية أن تستوي على هيئة جدية وفعّالة لا بدّ من إيجاد حل للقضية الفلسطينية يُرضي على الأقل السلطة الفلسطينية في رام الله وهذا ما لا يريده نتنياهو الذي يرى أن الدول العربية الخائفة على أمنها هي في موقع أضعف من أن يتيح لها فرض حل الدولتين وبالتالي عليها أن تهتم بأمنها وليس بالقضية الفلسطينية.
الاحتمال الثالث والأخير يكمن في تحويل هذه القمّة إلى فرصة لإعادة انتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة العبرية ولعلّ ضعف التمثيل في القمّة وركاكة خطبها وإعلاناتها وابتعاد الأوروبيين عنها وضعف التمثيل فيها وغياب روسيا والصين وعدد من الدول عنها ، حتى الحضور البريطاني لم يكن كاملاً حيث أكدت لندن إنها تحضر القمّة فقط من أجل الجانب الإنساني في الحرب اليمنية. كل ذلك يرسل صورة "مكركبة" عن الرعب الذي يضرب حلفاء أميركا الخائفين من انسحابها من سوريا وعن رعب إسرائيل التي باتت لا تعرف ماذا تفعل لتغيير قواعد الاشتباك على الحدود مع غزّة وجنوب لبنان وقريباً في سوريا.
في وارسو اجتمع الخائفون في قمّة " مفرطعة" والراجح أن يؤدّي خوفهم إلى عمل عسكري استباقي أحمق ضد إيران أو تسهيل فوز نتنياهو بولاية جديدة في إسرائيل وفي الحالين لن يتبدّد الخوف بل قد يظل جاثماً على صدور الخائفين.
فيصل جلول، باحث لبناني مقيم في فرنسا