حسَب الفشل المتتالي لجولات المصالحة الفلسطينية، بمثابة تقويض ذاتي للحالة الفلسطينية برمّتها، وهو التقويض المتواصل والذي بدأ منذ اللحظات الأولى للانقسام الفلسطيني، والذي تلته عملية تشويه ممنهج ومتعمّد لكافة الرموز الفلسطينية سواء على مستوى الأشخاص أو مؤسّسات الدولة من اتحادات ونقابات أو منظمات المجتمع المدني.
واصلت الأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية للعام الثالث عشر على التوالي، فشلها المعتاد في إتمام المصالحة الفلسطينية المنشودة. بحث قادة الفصائل في زيارات إلى مختلف قارات العالم عن الحلقة المفقودة في إمكانية التوصّل إلى مصالحة حقيقية قادرة على إعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة الشراكة الوطنية القادرة على مواجهة التناقض الرئيس مع الاحتلال ومن خلفه الإدارة الأميركية بقيادة ترامب الساعية، بلا هوادة، إلى تصفية القضية الفلسطينية تحت مسمّى صفقة القرن الإعلامية. والتي لم تعلن حتى اللحظة ولاتزال الطواقم الأميركية تواصل عملية التشويق الإعلامي لها.
جاء الفشل الفلسطيني لجولة موسكو ضمن سقف التوقّعات الشعبية التي لم تراهن كثيراً على أية نسبة نجاح لهذا الحوار، وذلك لأن الكل الفلسطيني بات على ثقة بأن قرار المصالحة لم يعد فلسطينياً، كما كان قرار الانقسام. خاصة وأن الأحزاب والقوى السياسية وجدت نفسها راضية أو مُرغَمة على الانخراط في لعبة المحاور في المنطقة، وهي اللعبة الاقليمية التي يحاول فيها كل طرف توظيف القضية الفلسطينية حسب أهوائه ومصالحه الذاتية.
يُحسَب الفشل المتتالي لجولات المصالحة الفلسطينية، بمثابة تقويض ذاتي للحالة الفلسطينية برمّتها، وهو التقويض المتواصل والذي بدأ منذ اللحظات الأولى للانقسام الفلسطيني، والذي تلته عملية تشويه ممنهج ومتعمّد لكافة الرموز الفلسطينية سواء على مستوى الأشخاص أو مؤسّسات الدولة من اتحادات ونقابات أو منظمات المجتمع المدني. وباتت المحاولة لضرب مفهوم الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني عبر تعزيز لغة المناطقية والانقسام والتشرذم السلاح المتبقّي لتقزيم الأحلام والأماني الوطنية الفلسطينية، في ظلّ فقدان الثقة الشعبوية في القيادات والأحزاب، سواء من خلال خطاب الكراهية والتخوين المتبادل، أو من خلال ممارسات الفساد على المستوى العام.
أمام هذا المشهد جاءت التحرّكات الأميركية لاستنزاف أية بارقة أمل قد يجدها الفلسطينيون في عمقهم العربي، وذلك من خلال مؤتمر وارسو والذي انطلق مباشرة عقب انتهاء جولة المصالحة في موسكو. تأتي محاولات إدارة ترامب في عقد مؤتمر وارسو، بعيداً عن مظلّة الشرعية الدولية، بغرض الابتعاد عن كافة المؤسّسات الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً الأمم المتحدة، في محاولة للدّفع تجاه تبنّي نهج أحادي لكسر الأساس القانوني الدولي لحل القضية الفلسطينية، وخصوصاً قرارات الشرعية الدولية، وتسريع عملية التطبيع الخليجي والعربي مع إسرائيل من خلال استغلال فرصة القلق والرعب الخليجي من الدور الاقليمي الإيراني في المنطقة لتعجيل وتيرة التطبيع مع دولة الاحتلال.
تتلخّص الحقيقة المرة في هذا الاتجاه في بُعدين. أن المصلحة الإسرائيلية تقتضي بقاء وديمومة إيران كقوّة في المنطقة، لأن ذلك سيساعد إسرائيل في إنجاز وإتمام التطبيع وقيادة المنطقة وفقاً لقدراتها الاستخبارية المتقدّمة والتي يحتاجها العديد من الأنظمة لمساعدتها على البقاء من ناحية، ومواجهة إيران من ناحية أخرى. خصوصاً عقب انهيار النظام العربي الرسمي منذ سقوط بغداد في 2003. في حين يستند النظام الإيراني في مواجهة الأنظمة العربية إلى أرضية شعبوية تتّخذ من دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين موطئ قدم له في المنطقة العربية، في ضوء تخاذل قيادة العالم العربي عن دعم المقاومة والمطالب التحرّرية للشعوب المُضطهدة والمُستعمرة. حتى أن بيانات الاستنكار والإدانة التي كانت تصدر سابقاً عن تلك الأنظمة تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على الفلسطينيين باتت عبئاً ثقيلاً عليها، ولا عجب في أنها تُبرّر الآن بأنها "حق إسرائيلي في الدفاع عن نفسها".
أمام هذه المعادلة جاء مؤتمر وارسو، ليعمل على تسريع خطوات كانت بطيئة وخجولة في ما مضى من عُمر الصراع العربي الإسرائيلي، جاء لينتهز الفرصة، ويشهر زواجاً ربما كان سرّياً لسنواتٍ طويلة، ويكشف عقوداً طويلة من الادّعاء بان هناك صراعاً بين الدول العربية وإسرائيل على فلسطين. وأن إسرائيل انتصرت على الجيوش العربية في عدّة حروب، وأن إسرائيل صمدت في وجه إثنتين وعشرين دولة عربية. لقد بات واضحاً الآن، والفضل في ذلك يعود للرئيس ترامب، أن كثيراً من الأنظمة في كثير من البلدان العربية، قد وظّفت "الصراع العربي-الإسرائيلي" من أجل تسويق نفسها، وزيادة شرعيتها، وللاستمرار في بسط هيمنتها على شعوبها.
مجدّداً، يرفع القادة العرب شعارهم القديم الجديد "نحن نقبل بما يقبل به الفلسطينيون" في خطوة استباقية فات زمانها بعد أن أمعنوا في حرمان الفلسطينيين من عوامل التشبّث بحقوقهم، وبات التنافس عربياً على مَن يكون صاحب الجدارة بالتوسّط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إثبات وجود أمام قوى إقليمية صاعِدة في المنطقة.
قد تشهد المرحلة المقبلة تمهيداً لطلاق بائن بين تلك الأنظمة والقضية الفلسطينية، وما السماح لبعض الإعلاميين والمروّجين لشيطنة الفلسطينيين إلا خدمة تصبّ في التشكيك في المفهوم الأوسع للعروبة، وفلسطين، واسترضاء للنظام الإسرائيلي الاستعماري.
لقد أصبحت الأجندات السياسية الناشطة في المنطقة أكثر وضوحاً، والاصطفاف العربي التطبيعي مع إسرائيل لا يترك مجالاً للشك. هذا الفرز بحد ذاته هو خطوة في الاتجاه الصحيح لتحديد مسار جديد لمقاومة سياسات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والبحث عن مناصرين آخرين يشاركون الفلسطينيين نضالهم ضد الظلم والحرمان والاستبداد والتبعية، والابتعاد عن الأنظمة التي تتشاطر الخبر على موائد أنظمة الظلم والحرمان والاستبداد والتبعية.. لذلك نبقى متفائلين.
طلال أبو ركبة، باحث سياسي من غزة