السودان بين متاهات التناوب وفشل الإخوان

قيم هذا المقال
(0 صوت)
السودان بين متاهات التناوب وفشل الإخوان

متاهات التناوب، عنوان حول المغرب للباحثة رقية المصدق، رصدت فيه الحركة السياسية المغربية وتجربة ما يُعرَف بدولة المخزن في هذه الحركة، وقد وجدت العنوان ملائماً للحالة السودانية، التي تراوح مكانها بين العسكر وأحزاب اليمين، كما في إطار الشعارات والمطالب نفسها منذ عقود.
كانت السودان قد خضعت لحُكم ثنائي بريطاني مصري في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك تحت تأثيرات متعدّدة، كبوابة لإفريقيا الإستوائية من جهة، كما بسبب الصراع على القطن وغيره.
ومع تفاعُل الأهالي مع الحراك السياسي المصري وانتفاضة 1919، وكذلك بسبب تقاليد الكفاح السودانية ضد الإستعمار البريطاني، شهدت السودان سلسلة من الانتفاضات الشعبية، الوطنية والطبقية، وكان ملاحظاً في كل مرة عدم انخداع الأهالي بالوعود والمشاريع البريطانية المزعومة للإصلاح الدستوري، واتّساع قاعدة العمل السياسي الحزبي بكل تياراته.
وكما وفّرت انتفاضة 1919 المصرية بيئة إقليمية لكل ذلك، ساعدت حركة الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر واحترامها لإرادة السودانيين، على استقلال السودان وإعلانه جمهورية مستقلّة عام 1956.
منذ ذلك الحين دخل السودانيون في تناوبات موضوعية بين الأحزاب والعسكر، تكاد تكون سِمة خاصة بهذه التجربة بما يشبه التناوب الدائري بين الأحزاب نفسها، كما بينها وبين العسكر، كما في شعاراتها ومطالبها، كما لو أن السودان يدور في فراغ.
ولا بد قبل مقاربة هذه التجربة من الوقوف عند موضوعين:
1- أبرز التيارات السياسية والنقابية التي تُدير هذا التناوب أو تخضع له.
2- الخاصرة الجنوبية.


أحزاب السودان
بين الأعوام 1945 و1950، شهدت السودان ميلاد أهم القوى الحزبية التي لاتزال تتحكّم به، ويمكن تقسيمها إلى قوى تختلط فيها أنماط مذهبية بعائلات نافِذة قبلياً واجتماعياً واقتصادياً، مثل حزبي الأمّة والإتحاد الديمقراطي، وقوى ذات بُعد آيديولوجي مثل الشيوعيين والإسلاميين، بالإضافة إلى تجربة نقابية مُبكرة وحيوية:
1- ولِدَ حزب الأمّة من رحم طائفة الأنصار وبقيادة عائلة المهدي (الهادي ثم الصادق)، وهي عائلة ثرية من ملاّك الأراضي والكومبرادور، مما يفسّر مرونتها في العلاقة مع الإنكليز والأميركان والسعودية.
وقد تولّى الحزب الحكومة أكثر من مرة، عبر عبدالله خليل والصادق المهدي نفسه، وكان الحزب مُصنّفاً ضمن ما يُعرَف بخط الإستقلال عن مصر، حتى أن حكومته خلال العدوان الثلاثي تردّدت في إدانة العدوان.
2- أما الإتحاد الديمقراطي، فهو مُحصّلة اندماج قوى عديدة، وقد ولِدَ من رحم طائفة الختمية بقيادة عائلة الميرغني، وكان يضمّ فئات اجتماعية متنوّعة بين البرجوازية المتوسّطة والكبيرة.
وقد تولّى الحزب رئاسة الحكومة أكثر من مرة عبر إسماعيل الأزهري، وكان مُصنّفاً ضمن ما يُعرَف بالخط الإتحادي مع مصر، إذ كان يطالب حتى لحظة الإستقلال بدولة فدرالية مصرية سودانية.
3- القوى اليسارية والقومية (شيوعيون، ناصريون، بعثيون) وقد ظلّ الحزب الشيوعي لفترةٍ طويلةٍ أكثرها تنظيماً وفعالية، فالحزب الذي تأسّس عام 1946، لفت الإنتباه إلى الموارد الكبيرة للسودان وضرورة استثمارها وطنياً، بالإضافة لاهتماماته بالحركة العمالية وخاصة عمال السكك الحديد وكذلك الطلبة والجيش، بل إنه اتّهم بتدبير محاولة الانقلاب العسكري عام 1971 التي استولت على الحُكم لعدّة أيام، قبل نجاح النميري بالعودة إلى السلطة بدعم من السادات والقذافي وإعدام الضباط الذين قادوا المحاولة (هاشم العطا وبابكر النور وآخرون)، بالإضافة لأمين عام الحزب عبد الخالق محجوب وآخرين من رفاقه.
4- الإسلاميون بكل تياراتهم، من الجماعات الصوفية إلى السلفيين إلى الإخوان والتحرير إلى الإخوان الجمهوريين، ولعلّ أبرز هذه التعبيرات هي: أولاً، الأوساط الإخوانية، وتعود إلى نهاية الأربعينات قبل أن تتبلور تحت عناوين جبهوية في محطّاتها المُتعاقِبة من الجبهة الإسلامية عام 1955، إلى جبهة الميثاق الإسلامي عام 1965، إلى الجبهة الإسلامية القومية عام 1988 (القومية بالمعنى المحلي).
ورغم أن صعود الجبهة الإسلامية ظهر بعد سقوط النميري وفترتي سوار الذهب وحكومة المهدي، إلا أن هذا الصعود بدأ عملياً خلال السنوات الأخيرة للنميري، الذي استعان بالإخوان على طريقة السادات في مصر، لمواجهة الشارع واليسار، فضلاً عن تزامُن تعاون الإخوان مع النميري مع انفتاحه على تل أبيب (صفقة الفلاشا اليهود)، وعلى بريطانيا والولايات المتحدة، كما شكّل الإخوان غطاء أيديولوجياً للنميري في مُلاحقة (الإخوان الجمهوريين) وإعدام قادتهم.
بالمُحصّلة، تمكّن الإخوان من الإستيلاء على السلطة نفسها عبر انقلاب عسكري طالما ندّدوا به، وقد نظّمه حسن الترابي ونفّذه العميد عمر البشير سنة 1989، قبل أن يختلف الرجلان ويؤسّس كل منهما إطاراً خاصاً به.
ثانياً، المجموعة الإسلامية الثانية التي تركت بصمات فكرية أكثر منها سياسية، هي مجموعة (الإخوان الجمهوريون) بزعامة الشيخ محمود طه الذي أعدمه النميري بغطاء من الترابي بتهمة الردّة.
وقد عُرِفَ الشيخ طه بانفتاحه على خليط من الأفكار الإشتراكية والليبرالية والواقعية والعقلانية، التي ترفض تعدّد الزوجات وتطالب بالمساواة في الإرث بين الجنسين، وبتأميم المصالح الكبرى وبالتوسّع في إعمال العقل حتى لو اصطدم مع الشرع.
5- الأوساط النقابية، وخاصة التجمّع المهني، وتعود بدايات هذه الأوساط إلى نشاط العديد من النقابات العمالية المبكرة، كما إلى مؤتمر الخرّيجين 1936، وما تلاه من جبهات واتحادات نقابية موسّعة لعبت على الدوام دوراً مهماً في كفاح الشعب السوداني.

الخاصرة الجنوبية
كان جنوب السودان قبل انفصاله يشكّل ربع المساحة وربع السكان، ويحتوي على موارد كبرى بينها النفط ومساحات واسعة من الزراعات المختلفة مثل القطن.
وهو ديموغرافياً يتكوّن من قبائل نيلية وسودانية مختلفة، أشهرها الدينكا والنوير والشلوك، ويشمل ثلاث مديريات كبرى، هي بحر غزال، وأعالي النيل والمديرية الإستوائية.
أيضاً، وبالرغم من حملات التبشير المعروفة وبخلاف تصويره من قِبَل أحزاب اليمين السوداني كمنطقة تمرّد مسيحية، إلا أن نسبة المسيحيين لا تزيد عن نسبة المسلمين، وإنهما مجتمعتان لا تزيدان عن 40% مناصفة، مقابل أغلبية من الأرواحيين.
وتعود جذور الجماعات المسلّحة في الجنوب والبيئة القبلية الخاصة بكل منها إلى عوامل متعدّدة، منها التحريض والتمويل الخارجي المتعدّد المصالح (أميركا، بريطانيا، فرنسا)، ومنها السياسات التمييزية والطائفية لقوى اليمين في الشمال، إذ نعرف أن النزعات الإتحادية المحدودة عند الجنوبيين كانت تتلاشى في كل المرات التي استولى فيها غُلاة اليمين على السلطة في الخرطوم، سواء كانوا من العسكر مثل عبود والبشير، أم كانوا من الأحزاب، وهو الأمر الذي أدّى إلى انفصال الجنوب خلال الحُكم الإخواني كما هو معروف.

ما أشبه يوم السودان بأمسه
بعد سلسلة من التناوبات الحكومية بين الإتحاد الديمقراطي برئاسة الأزهري، وبين حزب الأمّة برئاسة عبد الله خليل، ممثّل المهدي، أطاح انقلاب عبود العسكري بالحُكم المدني 1958 وأطلق العنان لحيتان السوق والضرائب، وردّ على التبشير المسيحي في الجنوب بخطاب من الكراهية الطائفية المُضادّة في الشمال.
بالمقابل، كان ردّ الشارع واسعاً على ديكتاتورية عبود، وخاصة الجبهة الوطنية للنقابات بالإضافة لإضراب عمال السكة وتمرّدات عسكرية هنا وهناك، انتهت جميعها عام 1964 بعزل عبود وتشكيل حكومة مدنية برئاسة سر الختم خليفة وبمشاركة كل الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وقامت بإلغاء الطوارىء والإفراج عن المُعتقلين وتصفية العناصر المحسوبة على عبود من الجهاز الحكومي، ووضع خطط باستثمار الموارد الكبرى في البلاد بتعاون مع الإتحاد السوفياتي.
وقبل أن تكرّس الحكومة نفسها وسياساتها الجبهوية أعلن الإخوان المسلمون وحزبا الأمّة والإتحاد الانسحاب منها وطالبوا بانتخابات نيابية، أسفرت عن أغلبية لحزب الأمّة ثم الإتحاد مقابل 11 نائباً للحزب الشيوعي، وكلّف الصادق المهدي بتشكيل الحكومة، وسط اتهامات له بالتواطؤ أصلاً مع انقلاب عبود.
وقبل أن يُعلن المهدي بالتوافق مع الحزب الإتحادي وعواصم الحلف الإسلامي بقيادة السعودية، تحويل السودان إلى جمهورية إسلامية ما يساهم في تفجير المسألة الجنوبية، أطاح الجيش بقيادة النميري بالحكومة سنة 1968 ولكن هذه المرة بأصابع ناصرية.
ويشار هنا إلى أن مصر عبد الناصر وفي إطار الردّ على العدوان الذي نفّذه الكيان الصهيوني في حزيران 1967، لعبت دوراً في انقلاب النميري في السودان كما في انقلاب القذافي في ليبيا.
وقد ظلّ النميري وفيّاً للقاهرة طيلة سنوات الرئيس عبد الناصر، فأعلن السودان جمهورية ديمقراطية وسنّ قانون للضرائب يطال الشرائح العليا بالإضافة لسلسة من الإجراءات الشعبية، منها تأميم العديد من المصالح الكبرى وتوسيع التعليم ومظلّة التأمين الصحي والإجتماعي، وتعرّض بسبب ذلك لتمرّد مسلّح في جزيرة أبّا مقرّ الإمام الهادي، زعيم الأنصار الذي قُتِل في قصف الجزيرة وإخماد التمرّد.
ومن المؤسف أن ما فشل الأميركان والرجعية في تحقيقه خلال زعامة عبد الناصر، انتهى مع الانقلاب الساداتي بعد وفاته، وتحوّل النميري إلى ظلّ سوداني لهذا الانقلاب، ومن ذلك فتح النظام والمؤسّسة العسكرية أمام الإخوان وتحالفاتهم، ما أسّس لاحقاً وبعد عهدين قصيرين لسوار الذهب والصادق المهدي، للانقلاب العسكري الإخواني سنة 1989 برعاية حسن الترابي وقيادة عمر البشير.

الإخوان في السلطة ، الفشل الكامل
بعد سنوات قليلة من الخطاب الإخواني الذي ذاع خلال سنوات ما يُعرَف بالربيع العربي والذي هاجم الجمهوريات العربية وانقلاباتها العسكرية، هاهي تجربتهم في السودان تقدّم أسوأ مثال على حُكم سياسي عرفه العرب في تاريخهم الحديث (الفساد ، ارتفاع الأسعار، البطالة، نفوذ الشركات، التبعية، الذرائعية، والبراغماتية ، واللعب على الحبال، وتفسّخ الدولة من دارفور إلى انفصال الجنوب).
والأسوأ من ذلك كله، أن كل هذا الجوع والقهر الطبقي والإجتماعي الذي تركه الإخوان وحُكمهم في السودان، كان في بلد غنّي بالموارد، بل أن تقارير الفساد حول حُكمهم، تشير إلى أنهم لم يكتفوا بإطلاق يد الشركات لتنهب وتستغلّ عمال وفقراء السودان، بل وضعوا يدهم على قطاعات واسعة من القطاع العام بإسم إعادة الهيكلة والخصخصة.
وبالمُجمل وحتى يغادر السودانيون متاهات التناوب بين العسكر وأحزاب اليمين، لا بديل عن مواصلة الضغط الشعبي من أجل ضمانات جبهوية وقانونية واجتماعية وسياسية، تستعيد مناخات الحكومة الأولى لسر الختم خليفة، وتستفيد من تجاربها، وتمنع قوى اليمين والرجعية والليبراليين وجماعات الربيع المشبوهة من إعادة السودان إلى تلك المتاهات.

 

موفق محادين، كاتب ومحلل سياسي أردني

قراءة 1017 مرة