كاتب وباحث لبناني في الشؤون العسكرية خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية
هل اقتربت التسوية في المنطقة؟
حجم المخاطر يُرتِّب على محور المقاومة أعباء مُضافة خصوصاً في ظلّ الإنهيار المالي في لبنان، وتراجُع سعر صرف الليرة السورية ومستوى الضغط المُعادي في العراق، ما يعني أن حسم الأمور يجب أن يتم بسرعةٍ.
تعيش المنطقة حالياً جولة مواجهة مُتعدِّدة الأوجه تهدف فيها أطراف الصِراع كلٌّ من موقعه إلى تثبيت إنجازاته لمَن حقَّق الإنجازات، والانتقال إلى تسجيل نقاطٍ مُتقدِّمة لمَن يعاني من الإخفاقات.
هي السنة التاسعة توشك على الإنقضاء من عُمر الصِراع ولا يزال الميدان السياسي والعسكري في حال اشتعال ولا شيء يدلّ على نهايات له أقلّه في المنظور القريب والمتوسّط.
ولكن الثابِت في كلِّ ما يحصل من تطوّراتٍ هو أنّنا نعيش مرحلة التحوّلات الكُبرى والأقسى لجهة تعدُّد أوجه المواجهة وآلياتها، التي تمتلك فيها الولايات المتحدّة الأميركية مفاتيح الهجوم حتى اللحظة، في محاولةٍ جديدةٍ لكَسْبِ المواجهة هذه المرّة في الميدان الإقتصادي الذي يُلامِس بشكلٍ مباشرٍ أوجاع الناس في بيئة محور المقاومة.
تُدرِك الولايات المتحدّة أكثر من أدواتها المحلية على تعدّد تسمياتها ومهامها صعوبة تحقيق النصر على محور المقاومة، الذي بات يمتلك عامِلاً أساسياً من عوامِل المواجهة وهو قوَّة الردع على امتداد ساحات الصِراع من اليمن إلى لبنان مروراً بغزَّة والعراق وسوريا.
وبناء على الأوضاع التي تمرّ بها بلدان محور المقاومة في هذه المرحلة وقبل الإجابة على إذا ما كانت التسوية في المنطقة تسلك طريقها، لا بدّ من إيجاز الوضع وتبيان المشهد الكلّي في كل بلدٍ على حدةٍ والخروج بتقديرٍ للموقف يمكن من خلاله الاستدلال على طبيعة المرحلة القادمة والتطوّرات المُتوقَّعة.
في اليمن استطاعت قوى المُدافعة عن اليمن من الجيش واللجان الشعبية أن تنتقل من مرحلة الصبر الإستراتيجي إلى مرحلة الضربات الاستراتيجية، وهو تحوُّل يقضّ مضاجِع قوى العدوان ويضعها في حال الإرباك الدائم ويرفع لديها منسوب الحقد واستخدام المزيد من فائِض القوَّة من خلال استهدافٍ وحشي للمدنيين مُحتَمية بغضّ نظر أميركي وأممي، وعلى الرغم من ذلك استطاعت قوى المُدافعة عن اليمن أن تغيِّر في المشهد الميداني لمصلحتها وأن تُجبِر قوى العدوان على التفتيش عن مخارج لحفظ ماء الوجه. ففي اليمن لا وجود لانقساماتٍ جديدةٍ بل عملية فرز واضحة وتموضعات نهائية ستسمح للجيش واللجان من التقاط التحوّلات الميدانية واستخدامها في الضغط السياسي، ما يعني أن اليمن في هذه الأيام ورغم حجم التوحّش المُعادي يبدو أفضل ساحات محور المقاومة تماسُكاً وامتلاكاً لقوَّة الردع.
في فلسطين وتحديداً في قطاع غزَّة تبدو الأمور على الرغم من حال الانقسام السياسي، وهي انقسامات قديمة ومُزمِنة شبيهة بوضع اليمن حيث الحصار القاسي والضربات العسكرية الصهيونية المستمرّة، في وضعٍ أفضل ممّا كانت عليه قبل سنوات، وذلك بفضل التنامي المستمر في القُدرات العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي استطاعت في الجولات العسكرية الأخيرة أن تستخدم القوَّة العسكرية الرادِعة بشكلٍ يُجبِر القيادة الصهيونية على اللجوء إلى مصر للاستعانة بجهود المخابرات المصرية للوصول إلى وقف إطلاق النار. ورغم ذلك لا يتمّ تحقيق إنجازات تُذكَر في الملف المُرتبِط برفع الحصار وإعادة الإعمار، ما يعني أن المشهد سيبقى على حاله كما هو من المراوحة بين الانفجار العسكري والردع المُتبادَل إلى فترةٍ ليست بالقصيرة، فنتنياهو المحكوم بمشاكله الداخلية والمأزوم سياسياً والمُعرَّض لفُقدان الحصانة بمواجهة اتهاماتٍ بالفساد، سيبقى مستمرّاً بأساليبه الحالية حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة، وهو ما يمكن أن يجعله أكثر رغبة في مواجهةٍ شامِلةٍ سيحاول حصرها على جبهة غزَّة لتحقيق فائضٍ سياسي يُمكِّنه من العودة إلى الحُكم كبطلٍ مقابل فَهْم دقيق لدى الفلسطينيين لهذه السياسة وعدم منح نتنياهو ما يريده.
في العراق ولبنان ومنذ حوالى الشهرين يعيش البلدان حال حراك شعبي بمواجهة السلطة تحت عناوين مطلبية ومُناداة بمُكافحة الفساد، وبينما تبدو هذه الحراكات مطلبية وشعبية ومُحِقَّة في ما تُنادي به، وهو أمر يحتاج إلى الكثير من الشرح والتبيان نظراً إلى تمادي السلطة في البلدين بعمليات نهبٍ مُنظَّم عُمرها في لبنان أكثر من 30 عاماً وفي العراق حوالى 16 عاماً، وصلت من بعدها الأمور إلى مرحلة الانفجار الشعبي، ولكنه انفجار شعبي عليه الكثير من المُلاحظات لجهة الهيئات والشخصيات والقوى والمنظمات التي تُديره، حيث يمكن الجَزْم بأن أكثر من 90% من هذه القوى هي قوى مُعادية للمقاومة في العراق ولبنان بموقفها وتناغُمها مع المطالب الأميركية الواضحة.
في العراق تبدو القوى المُحرِّكة للحراك الشعبي واضحة وهي على سبيل المثال لا الحصر تيار مقتدى الصدر وتيار المرجع الصرخي والشيرازيين وغيرهم من التيارات الدينية والمنظمات غير الحكومية ( NGOs) التي تنضوي تحت عناوين موحّدة مُعادية للحشد الشعبي العراقي ولإيران، وتتلقّى دعماً واضحاً من السعودية منذ سنوات تحت عناوين الاستثمار، والهدف هو الوصول إلى مواجهةٍ شيعيةٍ – شيعيةٍ ربما تصل إلى حدود المواجهة العسكرية، وهو ما تم توفير كل الظروف له المحلية والدولية، بحيث أنه إذا اتّجهت الأمور بهذا الاتجاه تصبح مخاطر تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات واردة بشكلٍ كبير.
في لبنان من الواضح ومن خلال تصريحات سياسيين أغلبهم من قوى 14 آذار ومن الشعارات التي انطلقت في ساحات الحراك، ومن خلال التصريحات الأميركية المُتعدِّدة أنّ الأمور لا تختلف عن العراق، وهدفها عَزْل المقاومة عبر تبيان كتلة شيعية مُعادية لها ووضعها بالتساوي مع لائحة الفاسدين لسلب القدسية عن المقاومة تمهيداً إلى إنهائها ونزع سلاحها.
وإنْ كان الوضع في لبنان ممسوكاً بما يرتبط ببيئة المقاومة المباشرة وعدم حصول أية تصدّعات فيها، إضافة إلى تماسُك بيئة حلفاء المقاومة سيتمّ العمل في ظروفٍ مُعيّنةٍ على جرِّها إلى صِداماتٍ عسكريةٍ عبر افتعال استفزازات مُتنقّلة وهو ما لا أعتقد أنه يمكن أن يحصل.
انطلاقاً من الوقائع الحالية تبدو سوريا هي المُستهدَف الأول من خلال إعادة تطويقها عبر الوصول إلى تقسيم العراق، حيث تشكِّل الجغرافيا العراقية المجاورة لسوريا كالأنبار وإقليم كردستان وغيرها بيئة غير صديقة في الحد الأدنى، ويمكنها في حال ذهبت الأمور إلى مواجهةٍ شيعيةٍ – شيعيةٍ في العراق أن تنتعش فيها من جديد الجماعات الإرهابية، وفي كل الأحوال سنكون أمام عودة إلى الوراء لجهة قطع الطريق بين إيران وسوريا وتالياً لبنان.
إنّ هذا الحجم من المخاطر لا يمكن الإستهانة به ويُرتِّب على محور المقاومة أعباء مُضافة خصوصاً في ظلّ الإنهيار المالي في لبنان، وتراجُع سعر صرف الليرة السورية ومستوى الضغط المُعادي في العراق، ما يعني أن حسم الأمور يجب أن يتم بسرعةٍ وخصوصاً في سوريا التي لا تزال أمام استحقاقاتٍ عسكريةٍ واعتداءاتٍ مستمرة أميركية وتركية وإرهابية، مع العمل على توفير تقدير دقيق مُشتَرك للموقف، قد تكون أحد احتمالاته توجيه ضربة موحَّدة للكيان الصهيوني مع عملياتٍ عسكريةٍ تُنفّذها مجموعات المقاومة الشعبية في العراق وسوريا، تُجبِر الأميركيين والصهاينة على التراجُع وتقلب الطاولة على مُجمَل التعقيدات الحالية، وهو ما يعني أن التسوية مُستبعَدة حالياً في ظلّ تنامي عوامِل التصعيد بشكلٍ أكبر.