يُعد الرأي العام الأمريكي بمثابة مجتمع يقوم بدعم قوات الجيش المسلحة الامريكية ولقد أظهرت التجارب التاريخية السابقة أن مستوى الدعم الذي يقدمه المجتمع الامريكي لقواته العسكرية مرتفع بشكل ملحوظ حتى في أحلك الأيام التي عانت فيها تلك القوات المسلحة وعلى سبيل المثال، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، على الرغم من وقع بعض الأحداث مثل مذبحة “مي لاي” وخروج المظاهرات الواسعة المناهضة للحرب، إلا أن نصف المجتمع الأمريكي كان لا يزال يدعم عملية استمرار وجود القوات الامريكية على الاراضي الفيتنامية. ويمكن رؤية هذا النمط في فترات تاريخية أخرى، ولا سيما في عمليات قصف ليبيا في مطلع الثمانينات، والسيطرة على مضيق “بنما”، وعملية عاصفة الصحراء التي تم تنفيذها في حرب الخليج الاولى، وغزو العراق وأفغانستان، وقصف ليبيا خلال السنوات الماضية. ومع ذلك، فإن نظرة وردة فعل المجتمع الامريكي والمسؤولين الأمريكيين عقب قيام طهران بشن هجمات صاروخية على قاعدة “عين الاسد” قبل نحو أسبوعين، والتي أدت إلى حدوث الكثير من الاضرار المادية والبشرية في صفوف القوات الامريكية، لم يكن كبيراً ولم يقدم المجتمع الامريكي الدعم الكافي لما قام به “ترامب”. يذكر أن تلك الهجمات الصاروخية جاءت رداً على العملية الارهابية التي نفذتها مقاتلات الجو الامريكية والتي أدت إلى استشهاد الشهيد البطل “قاسم سليماني” وعدداً من رموز المقاومة بالقرب من مطار بغداد الدولي قبل نحو ثلاثة أسابيع.
ماذا تقول التجارب التاريخية ؟
أظهرت استطلاعات الرأي التي تم تحليلها قبل الأحداث الأخيرة، أن معظم الأمريكيين لم تكن لديهم رؤية إيجابية للهجوم العسكري على إيران وبطبيعة الحال، فإن مؤيدي ومعارضي الصراع العسكري مع إيران من الحزبين الديموقراطي والجمهوري بعيدون كل البعد، وذلك بسبب المناخ الثنائي القطب الذي نشأ في الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، ووفقًا لاستطلاعات الرأي حول سقوط طائرة “غلوبال هوك” المسّيرة في يونيو الماضي من هذا العام، أبدى 58٪ من الأمريكيين عدم رغبتهم بالرد عسكرياً على طهران، فيما أيد 49٪ من الجمهوريين القيام بعمل عسكري، وأيد أيضا 23 ٪ من الديمقراطيين العمل العسكري. وفي حين كان يعتقد الجميع أن الفجوة بين الجمهوريين والديمقراطيين سوف تصغر عقب قيام قوات الحرس الثوري الايراني بشن هجمات صاروخية على قاعدة “عين الاسد”، إلا أن الأدلة الميدانية وتعليقات المسؤولين الأمريكيين أظهرت عكس ذلك وبالاضافة إلى ذلك قلت المطالبات داخل الاوساط الشعبية الامريكية بضرورة القيام بحملة عسكرية ضد إيران.
الجمهوريين والتراجع عن مواقفهم السابقة
عقب قيام أيادي الغدر والخيانة الامريكية بعملية اغتيال الشهيد “قاسم سليماني” وعددا من رموز المقاومة بالقرب من مطار بغداد الدولي، قام عدداً من المسؤولين والقادة الامريكيين وعلى رأسهم الرئيس لامريكي “ترامب” ولكن بعدما قام أبطال قوات الحرس الثوري الايراني بشن هجمات صاروخية على قاعدة “عين الاسد” الواقعة في مدينة الانبار العراقية والتي تضم الكثير من الجنود الامريكيين، تراجع العديد من المسؤولين الامريكيين عن خطاباتهم السابقة وفي هذا السياق، ذكرت العديد من المصادر الاخبارية بأنه عقب تصريحات أدلى بها العميد “حاجي زاده”، قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، تراجع “ليندسي غراهام”، السيناتور الجمهوري البارز عن تصريحاته السابقة المستفزه وذلك لأنه خاف من ردود الفعل الإيرانية التي قد تحدث، وقال إنه لا يرى “أي انتقام في الوقت الحالي”. وقال إنه “بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تسعى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية فيما يتعلق بإيران”. وأوضح “غراهام” أن الولايات المتحدة لن تسعى للانتقام من طهران وكل هذه الامور تؤكد بما لا تدع مجالا للشك أن الهجمات الصاروخية الإيرانية الاخيرة ضد الأهداف الأمريكية الواقعة على الأراضي العراقية قد أضرت بشدة بسمعة واشنطن ومصداقيتها في العالم.
عندما يصبح مؤيدي حرب العراق من أبرز مناهضي الدخول في حرب جديدة
يعارض الكثير من المسؤولين الأمريكيين الاعضاء في الحزب الديمقراطي والسياسيين المستقلين بشدة الانتقام من الهجوم الصاروخي الإيراني وفي هذا السياق، قالت رئيسة مجلس النواب الديموقراطية “نانسي بيلوسي”، إنّ “على الولايات المتحدة ضمان سلامة عناصرنا ومنها إنهاء الاستفزازات غير الضرورية من جانب الإدارة والمطالبة بأن توقف إيران عنفها”. وأضافت “ليس بوسع أمريكا والعالم تحمل حرب”. ومن جهته، أدان “جوزيف بايدن” نائب الرئيس السابق والمرشح الديمقراطي الأبرز للانتخابات الرئاسية الأمريكية عملية اغتيال الشهيد “سليماني”، وأضاف في بيان له أن هذا الأمر “لا يلغي حقيقة أن الهجوم يعتبر تصعيدا هائلا في منطقة خطيرة أصلا”، واتهم “بايدن” الرئيس “ترامب” برمي أصبع ديناميت في برميل من البارود.إن هذه التصريحات التي اطلقتها “بيلوسي” و”بايدن” تأتي في الوقت الذي صوّت هذين السياسيين لصالح الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
انسحاب وسائل الإعلام الامريكية من عملية الدعم للهجوم المضاد
ذكرت العديد من التقارير الاخبارية أن الدعم الإعلامي الأمريكي للحكومة الأمريكية بعد الهجوم الانتقامي على قاعد “عين الأسد”، كان ضعيفاً للغاية. وعلى سبيل المثال، ذكرت وكالة “سي إن إن”، في تقرير نشرته قبل عدة أيام أن التاريخ سوف يتذكر “ترامب” كرئيس خسر منطقة الشرق الأوسط ومن ناحية أخرى، لم يتلق المؤتمر الصحفي الذي عقده “دونالد ترامب” ليلة وقوع تلك الهجمات الصاروخية الكثير من ردود الفعل الإيجابية من وسائل الإعلام الامريكية التي فضلت التصرف بحذر شديد والابتعاد عن نشر التهديدات التي اطلاقها القادة الامريكيين في الايام الماضية.
“ترامب” قلق أيضا
على الرغم من أن الدراسات الاستقصائية المفصلة حول دعم المجتمع الامريكي للاستمرار في الدخول في توترات مع إيران لم تنشر بعد، إلا أن المعلومات المحدودة تشير إلى أن الدعم لمساءلة الرئيس “دونالد ترامب” قد زاد بعد قيام القوات الامريكية بعملية اغتيال الشهيد “سليماني” والدخول في نزاع مع إيران. ووفقا لتقرير صادر عن موقع “سيفكيس”، فإن عدد مؤيدي ومعارضي عملية مساءلة “ترامب” ظلت ثابتة منذ عام 2018 وحتى الان، ومع ذلك، فلقد أدى الإعلان الرسمي عن عزل “ترامب” من قبل رئيسة مجلس النواب الامريكي “نانسي بيلوسي” إلى زيادة عدد المؤيدين بشكل كبير خلال الفترة الماضية لعملية مساءلة هذا الرئيس المتهور. وبالاضافة إلى ذلك وبعد قيام قوات الحرس الثوري الايراني بالرد على عملية اغتيال اللواء “سليماني”، زادت أيضا المطالبات بمساءلة الرئيس “ترامب” داخل المجتمع الامريكي. ويبدو أن تأثير هذا الرد العسكري الايراني على الرأي العام الامريكي لم يخطر ببال الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” نفسه، وعقب وقوع تلك الهجمات الصاروخية على قاعدة “عين الاسد”، أشارت صحيفة “ديلي ميل” في تقرير إلى قلق “ترامب” المتزايد بشأن تأثير تلك الانتخابات على الانتخابات الرئاسية الامريكية المقبلة.
الهيمنة الثنائية القطبية ودعم الجيش الأمريكي
بالنظر إلى كل ما ذكرناه أعلاه، يمكن القول أنه لأول مرة تواجه عملية الدعم المقدمة من قبل السياسيين والمجتمع الامريكي للإجراءات المضادة والعسكرية الانتقامية للخسائر المادية والبشرية التي مُنيت بها قوات الجيش الامريكي في قاعدة “عين الاسد” مشكلة خطيرة. والسبب الرئيسي لذلك يرجع في الغالب إلى تجارب الحرب الامريكي في العراق والهيمنة الثنائية القطبية التي سيطرة بالفعل على هياكل القوة الأمريكية بالإضافة إلى المجتمع الامريكي.
وفي سياق متصل، يمكن القول أيضاً أن إجراءات “ترامب” غير المنطقية والمجنونة في السياسة الخارجية، قد جعلت الأمريكيين مترددين في دعم قواتهم العسكرية والتعامل مع الأضرار التي تسببت بها الصواريخ الايرانية. وخاصتاً عقب قيام القادة والمسؤولين الامريكيين بنشر العديد من التقارير الكاذبة والمفبركة التي إدعوا فيها عدم وقوع خسائر بشرية في صفوف قواتهم في قاعدة “عين الاسد” وبعد انتشار الكثير من الصور والفيديوهات التي تؤكد وقوع العديد من الاصابات البشرية والمادية، قام المجتمع الامريكي بتوجيه الكثير من الانتقادات الحادة لـ”ترامب” وبعض المسؤولين الامريكيين.