تشير الأوساط إلى صعوبة الموقف المصري، وتتوقّع له أن ينعكس على موقف الإمارات والسعودية اللتين استمرتا في عدائهما للرئيس بشار الأسد في سوريا.
بعد الانتصار الكبير الَّذي حقَّقته الفصائل الموالية لحكومة الوفاق بشكل مفاجئ وسريع، فطردت قوات خليفة حفتر من العاصمة طرابلس وترهونة وبني وليد، وبدأت تتقدَّم نحو المدن الأخرى شرقاً وجنوباً، فوجئ الجميع بالمبادرة "اليائسة" التي أعلنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد لقائه المشير خليفة حفتر.
تضمَّنت المبادرة قراراً بوقف إطلاق النار اعتباراً من 8 حزيران/يونيو، واقترحت مجموعة من الأفكار لإنهاء الاقتتال الليبي وتحقيق المصالحة الوطنية، في إطار توصيات مؤتمر برلين وقرارات الأمم المتحدة.
المبادرة التي لم تتطرّق إلى التواجد العسكري التركي في ليبيا، تحدّثت "عن ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب من جميع الأراضي الليبية، وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها"، وهو الموضوع الَّذي لن يتّفق عليه الطَّرفان الليبيان ما داما يتّهمان بعضهما البعض في هذا المجال.
وجاء التعليق سريعاً على هذه التطوّرات العسكريّة من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي قال: "لقد تمَّ تطهير طرابلس وترهونة وجميع المطارات الأخرى في المنطقة من قبل جنودنا الأتراك وإخوانهم الليبيين. كما أنَّ المستجدات في ليبيا وشمال العراق (هذا الكلام قبل تعيين الكردي فؤاد حسين المقرب من تركيا وزيراً لخارجية العراق بيوم واحد) ومنطقة نبع السلام (شرق الفرات) وإدلب، تظهر مدى قوة أدائنا".
وكان كلام إردوغان مؤشراً واضحاً على استعداداته القريبة لمزيد من العمل العسكري في المناطق التي ذكرها، فيما اعتبر الإعلام الموالي له التطورات الأخيرة في ليبيا "انتصاراً تاريخياً له، وهزيمة شنيعة للرئيس السّيسي وحلفائه في المنطقة، وهم السعودية والأردن والإمارات، التي سبق أن هدَّدتها أنقرة بالانتقام منها لتآمرها ضدّ تركيا".
وتحدَّثت المعلومات الصّحافية عن قرار الرئيس إردوغان بعدم الانسحاب أبداً من المناطق التي استولت وستستولي عليها القوات الموالية لحكومة الوفاق المدعومة من تركيا والميليشيات السورية، مع استمرار الدعم لهذه القوات، إلى أن تتحوَّل ليبيا إلى ساحة استراتيجية للتحركات التركية في الشمال الأفريقي وعبر الحدود البرية لليبيا مع دول الجوار، وجميعها مهمة بالنسبة إلى حسابات إردوغان العقائدية، وهي مصر والسودان وتونس والجزائر. فالإخوان المسلمون أو الإسلاميون عموماً يتواجدون في هذه الدول، إضافة إلى النيجر ومالي وتشاد ذات الأهمية الاستراتيجية في الوسط الأفريقي، الذي وضع الرئيس إردوغان من أجله العديد من الحسابات عبر الساحة الليبية، التي ستتحرك أنقرة من خلالها وفق السيناريوهات التي يتحدث عنها الإعلام الموالي لإردوغان.
ومن هذه السيناريوهات أن تصبح أنقرة صاحبة القول الأهم في تقرير مصير ليبيا، التي ستعود إليها الشركات التركية مع الحصول على حصة الأسد في بترول ليبيا وغازها، إضافة إلى رفع معنويات الإخوان في مصر.
ومع استمرار الحديث عن صفقة روسية - تركية مسبقة لحسم الملف الليبي، بعيداً من الحسابات الأميركية والأوروبية، نعود ونذكّر بالاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس إردوغان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 23 أيار/مايو الماضي.
وقد يكون هذا الاتصال سبباً في تراجع الموقف الأوروبي (الفرنسي والإيطالي والألماني) الداعم لقوات حفتر، فقد التقى فايز السراج خلال زيارته لأنقرة، الخميس 4 حزيران/يونيو، السفير الأميركي ديفيد ساترفيلد، ذا الدور المهمّ والخطير في المنطقة العربية، قبل أن يأتي إلى تركيا، حيث عمل في دمشق وبيروت وعمان وتونس والجزائر وبغداد وتل أبيب، وكان مستشاراً لكونداليزا رايس، التي دعت لإقامة شرق أوسط جديد بعد احتلال العراق، واغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، ثم عدوان "إسرائيل" على المقاومة في لبنان في تموز/يوليو 2006.
وقال الإعلام التركي إنّ السراج، وبعد لقائه إردوغان والقيادات العسكرية والاستخباراتية التركية، بحث مع ساترفيلد تفاصيل التنسيق والتعاون التركي - الأميركي - الليبي في ليبيا. واعتبر المراقبون أنّ هذا اللقاء مؤشر مهم على انحياز أميركا إلى جانب السراج، لمنع "التوغل" الروسي في ليبيا وعبرها في الشمال الأفريقي.
وقد يكون هذا الانحياز السّبب في موقف القاهرة الأخير، إذ تخلَّت عن حفتر من دون أيّ مبرّر منطقي، وإلا لما مُنيت قواته بهذه الهزائم السّريعة التي قد تهزّ عرشه حتى في عقر داره شرق البلاد، بعد أن خسر مواقع استراتيجية في الغرب.
وأشارت أوساط أخرى إلى صعوبة الموقف المصري، وتوقّعت له أن ينعكس على موقف الإمارات والسعودية اللتين استمرتا في عدائهما للرئيس الأسد في سوريا، رغم عدائها لتركيا في ليبيا، وأحياناً في سوريا، فالجميع يعرف أنّ الرئيس السيسي، بسبب وضعه الداخلي الصعب اقتصادياً وأمنياً، أي مشاكل الإخوان وإرهاب الجماعات المسلّحة في سيناء، إضافةً إلى مشاكله مع أثيوبيا في موضوع سد النهضة، ليس على مستوى تحديات الرئيس إردوغان عسكرياً، بل وحتى سياسياً ونفسياً.
لقد أثبت إردوغان مرة أخرى أنه لن يتراجع عن مشروعه العقائدي والسياسي والاستراتيجي والتاريخي، أي إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية، مهما كلّفه ذلك، ما دام الإسلاميون العرب وغيرهم يرون فيه زعيماً روحياً وسياسياً لهم، وهم بايعوه ضد آل سعود وحليفهم السّيسي.
وقد أثبت إردوغان موقفه هذا في سوريا، بعد أن أرسل قواته إلى الشمال السوري في 24 آب/أغسطس 2016 بضوء أخضر روسي، فسيطر على غرب الفرات بأكمله، وأرسل جيشه إلى شرقه، ثم إلى إدلب. كل ذلك جعل من تركيا لاعباً رئيسياً لا يمكن حلّ المشكلة السورية من دونه، عسكرياً كان أو سياسياً.
ومنح ذلك الرئيس إردوغان المزيد من إمكانيات المناورة في مجمل أحداث الحل أو اللاحل لمشاكل شرق المتوسط، براً كان أو بحراً، وستمنحه انتصارات قوات حكومة الوفاق الآن إمكانيات أكبر غرب المتوسط، بعد أن وقَّع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في الأبيض المتوسط مع فايز السراج، وهو ما سيضيّق الخناق على مصر، ويعرقل تحركاتها البحرية في المنطقة التي سبق أن وقَّعت القاهرة من أجلها العديد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع قبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا.
وتتحدَّث المعلومات عن اتفاقية قد توقّع عليها أنقرة قريباً مع تل أبيب، في محاولة جديدة منها لنقل الغاز الإسرائيلي، ولاحقاً القبرصي، إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، وهو ما سيفقد القاهرة الكثير من أوراق المناورة الإقليمية والدولية مع استمرار الواقع العربي السيئ.
ويرى الرئيس إردوغان في هذا الواقع فرصته التاريخيَّة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية، من خلال تواجده في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر، وعلاقاته مع جميع الإسلاميين في كلّ دول المنطقة، والَّذين يرون في تركيا "ملاذهم وسندهم الوحيد ونموذجهم الأمثل"، مع استمرار الضبابيّة التي تخيّم على الفكر الإسلامي العربيّ بسبب الخلافات السياسية والعقائدية بين الأنظمة العربية، ومعظمها تأتمر بأوامر واشنطن حليفة الجميع في المنطقة.
ويفسّر ذلك تراجع الرئيس ترامب عن حديثه إلى السيسي خلال لقاءاته المتكرّرة به، حتى قبل أن يصبح رئيساً لأميركا في أيلول/سبتمبر 2016، إذ وعده بإعلان الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، وهو ما قاله أيضاً بعد أن أصبح رئيساً، إلا أنه تراجع عن كلامه بسبب سياسات التوازن التي تنتهجها واشنطن في علاقاتها بين إردوغان، العضو في الحلف الأطلسي، وبين الرئيس السيسي. وقد أثبتا معاً أن لا فرق بينهما في "مشاعر المودة" تجاه الرئيس ترامب، رغم معاملته السيّئة لهما ولكلّ ملوك الخليج وأمرائه، وهو ما لا يحتاج إلى أيّ تعليق!
ويبقى الرهان على الأيام والأسابيع القليلة القادمة، التي سيحقّق الرئيس إردوغان خلالها المزيد من المكاسب والانتصارات في ليبيا، وهو ما فعله في سوريا، ما دام يعتقد أنه الأقوى الذي يريد أن يلقّن أعداءه المزيد من الدروس، وهذا ما قرأناه ونقرأه في الإعلام الموالي لإردوغان، "الذي يعيش نشوة الانتصار على عدوه الأكبر السيسي وحليفيه محمد بن زايد ومحمد بن سلمان". وقد قال لهما رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" بلسان حال إردوغان: "انتظرا، فنحن قادمون إليكما من بنغازي".