تكرار عبارة "سنقتله" ثلاث مرات على لسان السيّد حسن يعكس التوكيد والجدّية، لكنّ الرسائل التي سبقت الخطاب وتلته توحي بتحوّلات كبيرة وخطيرة ربما تشهدها الأسابيع المقبلة.
في سياق الأحداث التي طبعت العام 2020 منذ بدايته، جاء الخطاب الأخير لأمين عام حزب الله مفصلياً في رسائله وتوقيته. يكفي النظر إلى الصحافة الإسرائيلية لفهم أبعاد التطوّرات الحاصلة.
منذ بداية العام الحالي تسارعت الأحداث. حدث ذلك منذ لحظة اغتيال الشهيد الفريق قاسم سليماني. خرجت آلة الزمن عن السيطرة. هكذا على الأقل بدت الأمور. تدحرجت كرة الثلج في مرحلة بدأت تتمظهر فيها الاختلالات في موازين القوى على صعيد المنطقة والعالم.
ما كان يُنظر إليه على أنه مبالغة أو ضرب من ضروب الخيال، عرّته جائحة كورونا. بدت الإمبراطورية الأميركية مترنّحةً كملاكم لطالما احتفظ بالألقاب، ولا يريد أن يصدّق أن ضربته القاضية لم تعد فعّالة.
الأسبوع الماضي كان حافلاً بجملة من الرسائل الملتهبة، بلغت ذروتها مع السيد نصرالله. أكد أمين عام حزب الله أن "من سيضعنا بين خيار القتل بالسلاح أو الجوع، سيبقى سلاحنا في أيدينا، ونحن سنقتله، سنقتله، سنقتله".
يحصل ذلك في مرحلة حافلة بحدث عالمي غامض عنوانه "كورونا". رواية "نهاية التاريخ" والانتصار النهائي للنموذج الأميركي لم تعد في نظر كثير من شعوب العالم اليوم قابلة للتصديق. في هذه المرحلة التي يتسيّد فيها البيت الأبيض تاجر تقضي مصلحته الاحتفاظ بقاعدته الانتخابية البيضاء، فإن مصلحته هذه تحديداً تمثّل، للمفارقة، أسافين تعمّق الصدوع في جدار الأمن القومي لبلاده. من مصادفات التاريخ أن مصالحه الانتخابية هذه معطوفة على مصالح إنجيلية عقائدية، تتقاطع مع مصالح أخرى في المنطقة.
في الكيان الصهيوني، ينظر اليمين الإسرائيلي إلى دونالد ترامب باعتباره فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتنفيذ مشاريعه الكبرى في تأبيد سيطرته على فلسطين عبر "صفقة القرن"، وإخضاع المنطقة والمقاومة عبر سلاح التجويع والحصار الاقتصادي.
يأتي خطاب السيّد نصرالله في هذه اللحظة الفارقة ليقلب الطاولة على هذه المشاريع، مستعيداً زمام المبادرة بتوقيت المقاومة. إنه خطاب بنسخة متقدمة عن خطاب "بيت العنكبوت"، وكأنه يقول إن المعركة انتهت، ملوّحاً بمعادلته الخاصة "المهمة والخطيرة"، على حد توصيفه، والتي لم يكشف عنها، فهل تكون معادلة الانتقال من الدفاع الاستراتيجي إلى الهجوم الاستراتيجي؟
في خضم هذه التطورات، تبدو كأن الكوابح السابقة كأنها لم تعد كافية لإيقاف مسار التصادم بين مشروعين؛ من جهة "صفقة القرن"، ومن جهة ثانية توأمه "قانون قيصر"، الذي يرى فيه إيليا مغناير، الصحافي والخبير الإسرائيلي في شؤون حزب الله وسوريا أنه مشروع إسرائيلي أكثر من كونه مشروعاً أميركياً، مقابل مشروع التحرّر الذي يمثّله محور المقاومة.
لم يعد خافياً أن حرب التجويع الجديدة تهدف إلى تكبيل أيدي سوريا ولبنان بأزمات داخليّة معيشيّة خانقة، تمنعها من مدّ يد العون إلى انتفاضة فلسطينيّة محتملة إذا جرت عمليات الضم. بالتوازي، ثمة حرب نفسية وحراك أممي يقوده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. الأخير أعلن عبر تقريره التمهيدي حول دور القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، نيّة التوجّه إلى فرض "تعديلات" جديدة على دور تلك القوات ومهامها، بما يعني الاتجاه إلى مرحلة مختلفة وخطيرة تجاه حزب الله.
تكتسب هذه التطورات أهمية في ضوء الرسائل المصوّرة التي لم يجد الإعلام الإسرائيلي صعوبة في فكّ شيفراتها. أبرز هذه الرسائل فيديو عَنونه الإعلام الحربي بـ"أنجز الأمر"، تضمَّن مشاهد عن إحداثياتٍ لمواقع مهمةٍ للاحتلال الإسرائيلي في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
صحيفة "جيروزاليم بوست" استعادت قبل أيام عمليات إطلاق الصواريخ البعيدة المدى التي نفّذها الحرس الثوري في السنوات الماضية، وطالت أهدافاً في سوريا والعراق، وصولاً إلى استهداف قاعدة "عين الأسد" مطلع العام الحالي.
مركز "بيغن- السادات للدراسات الاستراتيجية" استعاد الضربة الأخيرة عبر دراسة خلصت إلى أن "القوة الجوية الأميركية التي كانت متموضعة في القاعدة كانت عاجزة أمام صلية الصواريخ". بعبارة بسيطة: "إيران حققت في هذه الحالة تفوقاً جوياً، من خلال صواريخ دقيقة، ومن دون استخدام طائرات"، كما تقول الدراسة التي تفترض سيناريو مشابهاً سوف يتكرر في أي مواجهة محتملة مع حزب الله.
تلاحقت المقاطع المصورة والتصريحات والرسائل النارية على إثر ذلك. تطلق القوة البحرية التابعة للجيش الإيراني خلال مناورات في منطقة شمال المحيط الهندي وبحر عمان صواريخ كروز البحرية قصيرة وبعيدة المدى. صرّح أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي، أن قمر "نور" العسكري الإيراني يرسل يومياً صوراً دقيقة من فوق الأراضي الأميركية والأراضي الفلسطينية المحتلة، وأعلن أن الطائرات الإيرانية المسيرة كانت تحلّق فوق السفن الأميركية خلال توجه الناقلات النفطية الإيرانية إلى فنزويلا.
في اليوم التالي، أعلن قائد القوات البحرية في حرس الثورة الإيرانية أن بلاده تتطلع إلى إنشاء قاعدة دائمة في المحيط الهندي، وأنها ستفعل ذلك هذا العام.
يستهدف اليمن السعودية بثلاثة صواريخ بالستية، ويعلن وزير السياحة في حكومة صنعاء أن هذه الصواريخ التي أصابت مناطق استراتيجية وعسكرية هي "رسالة إلى تل أبيب وواشنطن"، لا إلى السعودية وحدها.
ليس أمراً عادياً أن يعمد محور المقاومة إلى بث هذه الكمية من الرسائل تجاه "إسرائيل" خلال فترة زمنية وجيزة. يُترجم هذا الأمر التوكيد في عبارة "سنقتله" التي كررها السيد نصرالله ثلاث مرات. رسائل تقول إن المقاومة قادرة وستفعل إن لزم الأمر، وإن معادلة الكمّاشة التي يريد الإسرائيلي أن يفرضها بين داخل فلسطين وبين سوريا ولبنان، ستنقلب عليه قريباً إذا أصرّ عليها.
أكثر من فهم خطورة هذا الوضع النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي تشاك فرايليك. نبّه إلى أنّ قرار ضمّ أجزاء من الضفة سيُفضي حتماً إلى اندلاع حرب مع "إسرائيل" على ثلاث جبهات مجتمعة، قبل أن يشدّد موقع "والاه" منذ أكثر من أسبوع على ضرورة الحذر من أنّ الوضع في غزّة سيكون "قابلاً جداً للانفجار".