ضمّ الضفّة خطأ استراتيجيّ قاتل

قيم هذا المقال
(0 صوت)
ضمّ الضفّة خطأ استراتيجيّ قاتل

لا شكَّ في أنَّ الأسابيع والأشهر القادمة ستحمل الكثير من المتغيرات في المنطقة، فقرار "صفقة القرن" والبدء بإجراءات الضم، خطأ استراتيجي أميركي - إسرائيلي قاتل سيرتب تداعيات معقدة.

قرّر رئيس وزراء الكيان الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، أن يعلن عن موعد تنفيذ قرار ضمّ أجزاء من الضفة الغربية (مطلع الشهر الحالي) قبل أن يتراجع عن قراره، وقد ظنّ أنه يستطيع استغلال العديد من العوامل الدولية، منها أنّ عامل الزمن في مصلحته، وأنّ البدء بالضم قد يكون أسهل الآن في ما لو بدأ به، فالصّراع على سوريا وفيها لا يزال قائماً، وكذلك الوضع في ليبيا، ومصر تصارع بقاءها من خلال نزاعها مع إثيوبيا على سد النهضة، واليمن يتصدى لعدوان مستمر منذ سنوات، والوضع العراقي متفجر باستمرار، والوهن والضعف الذي أصاب الدول العربية أصبح في أعلى درجاته، وأي خطوات محتملة بنظره تجاه دعم القضية الفلسطينية ستكون ضعيفة وغير فعّالة، وخصوصاً حرص بعض قادتها على استمرار كسب ود واشنطن. وبذلك، لا يمكن أن تقود هذه الدول أيّ خطوات تؤدي إلى رد فعل حقيقي لمواجهة المخططات الإسرائيلية.

ويعلم نتنياهو أنَّ جلّ ما صدر عن العرب حين أعلنت واشنطن أنَّ القدس عاصمة لـ"إسرائيل" في العام 2017، لم يتجاوز الصريخ الإعلامي، وبذلك، تكون الفرصة مؤاتية للاستمرار في قضم الأراضي الفلسطينية وغيرها، وخصوصاً أن علاقاته مع العديد من الدول العربية تستمر في النمو والتطور، ويجمعهم عدو افتراضي واحد مشترك، هو إيران. 

ويدلّ على ذلك ما سبق لغولدا مائير أن قالته بعد إحراق المسجد الأقصى: "لم أنم طوال الليل. كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، ولكن عندما أشرقت الشمس في اليوم التالي، علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده". 

إنّ العالم منشغل بالعديد من القضايا، بعضها يتعلّق بالعلاقات المتوترة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، وبين تركيا ودول عربية وأوروبية، وبعضها يتعلَّق بقضايا أسعار النفط، وأخرى بالانتخابات والاستفتاءات وغيرها، ولكن الأهم كان انتشار فيروس كورونا. 

ومن خلال الائتلاف الحكومي اليميني المتشدّد في "إسرائيل"، سعى نتنياهو إلى البدء بتطبيق "صفقة القرن"، مستفيداً من الوضع الدولي، معتبراً والرئيس ترامب أن هذه اللحظات تشكل فرصة تاريخية قد لا تتكرر في المستقبل، وخصوصاً أنّ الانتخابات الأميركية ستجري بعد أشهر قليلة من الآن، وأن فرص ترامب في الفوز آخذة بالتراجع، بل تميل إلى سقوطه، لكنَّه تراجع عن قراره قبل نصف ساعة من الإعلان عن السير بإجراءات الضم، وقرَّر تأجيل تنفيذ خطته، لا إلغاءها، لأسباب عديدة لم تكن في حسبان نتنياهو وترامب، فما الذي جرى؟

هناك جدل كبير جداً داخل الكيان الإسرائيلي، ليس على مبدأ الضم، فهو محسوم بالنسبة إليهم، ولكن حول توقيت حدوثه وحجمه والمناطق التي سيشملها.

كما أنَّ نتنياهو بحاجة إلى إجماع إسرائيلي في الحكومة على أيّ خطوة قبل اتخاذها، وخصوصاً مع وجود خلافات واضحة مع أطراف أمنية وسياسية داخل الحكومة، مثل رئيس الشاباك، ورئيس أركان جيش الكيان الإسرائيلي، ورئيس مجلس الأمن القومي، ورئيس الحكومة البديل، وبعض الأعضاء البارزين في "الأي باك" اليهودي، تتعلق بالخطوات القادمة، وكيفية اتخاذها، وإذا كانت تتم بتوافق مع أطراف عربية ودولية أو من دونه.

هناك تكاليف أخرى لا يمكن إغفالها، وهي أن ضم أجزاء من الضفة الغربية سيضع الإسرائيليين أمام خيارين، إما أن يمنحوا الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية الكاملة (في ما لو قبلوا ذلك) وهذا مستبعد كونه يمكّنهم من التفوق على اليهود من حيث العدد، وفي التصويت الانتخابي يوماً ما، وإما أن يُتركوا في مناطق مغلقة بأقل قدر من الحقوق، ما يعيد فتح ملف "إسرائيل" كدولة فصل عنصري.

إضافةً إلى ذلك، أغفل نتنياهو أيضاً الموقف الأوروبي من إجراءات الضم، ولو أن موقفهم يحتمل في النهاية السير وفق الركب الأميركي. كما أغفل المخاطر المحتملة على الواقع الميداني مع الفلسطينيين في الداخل والخارج، كالأردن، والذين لن يكون لديهم خيار سوى مقاومة الاحتلال ومقارعته بكل قوة، وكذلك التطورات وردود الفعل التي ستطرأ على تنفيذ هذه الإجراءات على دول الجوار، كسوريا وحزب الله.

إنَّ الفلسطينيين، وخارج نطاق حكومتهم، لا بدّ من أن يتحركوا باتجاه إشعال انتفاضة جديدة سرعان ما تتحول إلى تصعيد مسلَّح، وتشمل كل المناطق في الأراضي الفلسطينية، وتستهدف الجنود والمستوطنين والحافلات والسياحة وغيرها، ما سيدفع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جديد إلى تصعيد المواجهة العسكرية معهم، وتنفجّر الأوضاع في المنطقة، لتتسع نحو سوريا ولبنان والأردن، فتنقلب إلى حرب إقليمية قد تمتد نتائجها إلى الداخل الأوروبي والخليجي، ما يقرّب الكيان الإسرائيلي من خيار هو الأسوأ في تاريخه ومستقبله تحت نطاق حرب قد تكون الأعنف، ويجعله من جديد محل ازدراء دولي.

في الجانب الدولي، طالب أكثر من ألف برلماني أوروبي حكوماتهم بالتدخّل لوقف المخطّط الإسرائيلي بضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، معتبرين أنَّ هذه الإجراءات ستدمّر أي آمال للسلام في الشرق الأوسط، وأن خطة الضم ليست إلا انتهاكاً للقانون الدولي، في سابقة تهدد أسس العلاقات الدولية، مطالبين القادة الأوروبيين بالرد عليها بحزم.

وقد أعلنت منظمة العفو الدولية أن خطط "الضم" الإسرائيلية ترسيخ لقانون الغاب، ويجب إيقافها، وأن على السلطات الإسرائيلية أن تتخلى فوراً عن خططها لضمّ المزيد من الأراضي في الضفة الغربية المحتلة. كما أشار منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إلى أنّ ضم الأراضي الفلسطينية ستكون له عواقب وخيمة على علاقات الاتحاد مع "إسرائيل".

وفي الجانب الأميركي، أغفل نتنياهو موقف جو بايدن، المرشّح الديموقراطي للرئاسة الأميركية أكثر حظاً في الفوز، والرافض لخطة الضم الإسرائيلية من طرف واحد، وكذلك العديد من الديموقراطيين الذين قد لا يدعمون حكومة الكيان الإسرائيلي بهذا الشأن.

أما الأمم المتّحدة، ومن خلال الاجتماع الافتراضي الذي أجراه مجلس الأمن الدولي لمناقشة خطة الضم، بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، ومبعوثها للسلام في الشرق الأوسط، وأمين عام جامعة الدول العربية، ووزير الخارجية الفلسطيني، فضلاً عن مندوب الكيان الإسرائيلي في الأمم المتحدة، فقد شهدت شبه إجماع دولي (باستثناء الولايات المتحدة الأميركية) على إدانة الخطط الإسرائيلية، بوصفها خرقاً للقانون الدولي، وخطوة قد تقود إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وانهيار فرص السلام. 

وقد تزامن ذلك مع رسالة وقَّعها أكثر من ألف برلماني أوروبي، تثير "مخاوف جدية" بشأن المقترحات الإسرائيلية، وتدعو إلى اتخاذ ردود مناسبة للتعامل معها، من دون الوصول إلى حد المطالبة صراحةً بفرض عقوبات على "إسرائيل" في حال قيامها بضم أراضٍ في الضفة الغربيّة. 

لا شكَّ في أنَّ الأسابيع والأشهر القادمة ستحمل الكثير من المتغيرات في المنطقة، فقرار "صفقة القرن" والبدء بإجراءات الضم، خطأ استراتيجي أميركي - إسرائيلي قاتل سيرتب تداعيات كثيرة وكبيرة ومعقدة، وليس من السهولة بمكان تمريرها، وسيكون لها آثار مدمرة طويلة الأمد، بعضها متوقع، وبعضها الآخر لا يمكن التنبؤ به، وستجلب أثماناً اقتصادية وأمنية وعسكرية إقليمية ودولية قاسية للغاية، لتشمل جميع الفاعلين على الأرض، سواء الكيان الإسرائيلي أو دول الجوار، من سوريا ولبنان، وحتى العراق وإيران، وصولاً إلى أوروبا وروسيا. 

قراءة 975 مرة