البحث عن مجد ضائع فـــي المستنقع الأفريقي

قيم هذا المقال
(0 صوت)

قوات فرنسية تستعد للبدء بمهامها في العاصمة باماكو

 

«نواجه ظروفاً صعبة من مجموعات جيدة التسليح». بهذه العبارات حاول وزير الدفاع الفرنسي، جان _ إيف لودريان، تبرير بعض من إخفاقات باريس في المستنقع الأفريقي الجديد الذي أوحلتها فيه واشنطن، ضمن ما يسمى الحرب على الإرهاب، في مسعى فرنسي جديد للبحث عن مجد ضائع.

 

باريس تعرف تمام المعرفة ما يعنيه أن تواجه جماعات مسلحة في ما يشبه حرب العصابات، وهي التي فشلت فشلاً ذريعاً عدة مرات في تدخل تلو آخر في القارة السمراء، كان آخرها ما تجرعته من علقم كوماندوس الصومال السبت الماضي.

وبعد تنظيم عدة انقلابات عسكرية ضد أحرار أفريقيا الذين رفضوا الانصياع لباريس طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد تراجع حدة الفرنسيين وفشلهم في سياسة خارجية قضى عليها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في بلد أوروبي يعتمد في جل معاشاته على شباب من العرب والأفارقة، ومع تنامي الأزمة المالية والخسارة المتواصلة للاقتصاد الفرنسي، زعمت باريس أنها ستدعم ضمن أمور أخرى ثوار ليبيا في ما سمّي الربيع العربي، وهي التي ظلت إلى وقت قريب أكثر الدول الأوروبية دعماً للعقيد الراحل معمر القذافي وسمحت له ببناء خيمته في الإليزيه بالرغم من كل شيء.

وفي بنغازي وطرابلس وغيرهما من المدن الليبية، دخلت فرنسا الحرب الى جانب «الثوار»، واعتبرت القذافي عدوّها الأول بعد أن كانت إلى وقت قريب تقدّسه كملك لملوك أفريقيا، بل وذهبت أبعد من ذلك الى التقارب بين القذافي والقطريين في طريق تقارب من نوع آخر مع الغرب وتدمير الأسلحة. وعمل الفرنسيون بكل ترسانتهم العسكرية على تدمير البنى التحتية في ليبيا أملاً بالحصول على بعض الكعكة والفوز بمشاريع اقتصادية في البلد الجريح.

لكن الحلم الفرنسي سرعان ما تعثر بسبب المشاكل مع قطر، وتهديدات بعض أنصار القذافي بتسريب بعض الاتفاقيات المشبوهة بين القذافي والإليزيه وفتح ملفات من بينها كيفية تمويل الحملة الرئاسية الفرنسية لساركوزي.

وعانت باريس من مشاكل متفاقمة، من أبرزها قتلها للعقيد الليبي، وهو الملف الذي لا يزال شائكاً وغامضاً إلى هذه الساعة. وفي مناطق متفرقة من القارة السمراء، فشل الفرنسيون في سياسة خارجية لم يكتب لها النجاح منذ عقود. وباتت باريس غريبة في محيط ظلت الى وقت قريب الآمر الناهي فيه. ومع تطور العلاقات الأفريقية الصينية والأفريقية الروسية، ها هي فرنسا تفشل مرة تلو أخرى في استخراج مناجم أو تشييد مشاريع هنا أو هناك. بعد ليبيا تورطت باريس في حماقات أخرى وظّفت لها آلة البطش العسكرية. ولولا تراجع المدّ الفرنكوفوني بسبب السياسة الخارجية الفرنسية، شأنه في ذلك شأن التراجع في المجال العسكري، لعانت القارة السمراء ما لا تطيق. وفيما ظل الفرنسيون يتحدثون عن تعاون عسكري مع مستعمراتهم السابقة ضمن شبكة من المعاهدات تنظم التعاون العسكري، وتعطي للقوات الفرنسية امتيازات واسعة تصل إلى حدّ استغلال قواعد عسكرية برية وبحرية وجوية، فضلاً عن أنها تقرر إمكانية تدخل القوات الفرنسية لمواجهة أي خطر داخلي أو خارجي يهدد أمن هذه البلاد، وذلك بناءً على طلب من حكومات، إلا أن هذا الوجود العسكري الفرنسي أصبح اليوم مقتصراً على مئات من العسكريين في تشاد وساحل العاج. وشنّت فرنسا عدة عمليات كوماندوس فاشلة من أبرزها عملية لتحرير جرمانو، وهو رهينة فرنسي لقي حتفه في مالي العام الماضي بعد تدخل كوماندوس فرنسي بشكل متهور في وقت كان فيه خاطفوه يستعدون لتسليمه مقابل معتقلين في سجن جزائري. ويسعى الفرنسيون بشكل متهور إلى تحرير رهائنهم المنتشرين في أفريقيا مستخدمين الأسلحة، فيما ينجح أوروبيون في دفع الفدية كأسلوب أثبت نجاحه في موضوع الرهائن.

وباتت فرنسا عزيزة الأمس ذليلة في أفريقيا بعد عقود من الأمر والنهي بسبب سوء التسيير والتعالي حسب مراقبين. وأصبح الفرنسيون غير مرحّب بهم في بلدان ظلت إلى وقت قريب تعتبر باريس المثل الأعلى والقبلة التي يتوجهون إليها في كل مشاكلهم.

ويرى مراقبون أن فشل باريس في إعادة النظر في مستعمراتها السابقة كان الضربة القاضية التي أنهت الحلم الفرنسي الباحث عن المجد الضائع في بلاد أصبح أبناؤها مثقفين ومسيّسين وبشراً من نوع آخر، ليس كما كان عليه الوضع سابقاً أيام كانت باريس تنظر إلى الأفارقة كقطيع غنم، وهي اليوم تتعالى على بعضهم بالترسانة العسكرية، في وقت يخطب الصينيون فيه ودّ الأفارقة وكذلك يفعل الروس واليابانيون. ويتباكى الفرنسيون على غربة جديدة فرضتها عليهم سياسات حكوماتهم المتكررة، في وقت تتقوى فيه أفريقيا ببلدان أصبح لها وزنها، كما هي الحال في جنوب أفريقيا وغيرها، وتتراجع حدة الرغبة في المشروع الفرنكوفوني الذي يوجد اليوم في موقف لا يحسد عليه.

وكانت آخر الحماقات الفرنسية فشل كوماندوس فرنسي هذا الأسبوع في تحرير عميل الاستخبارات الفرنسي، دوني أليكس، المخطوف في الصومال. وأسفرت العملية عن مقتل ثمانية مدنيين، بينهم أمرأتان وطفلان، وقتل جندي فرنسي على الأقلّ وأسر آخر، في حين لا يزال الغموض يلف العملية الفاشلة التي ينتظر أن تعلن الحركة الصومالية قريباً بعضاً ممّا رفض الفرنسيّون البوح به.

قراءة 1962 مرة