- حسن لافي
يحمل شهر رمضان هذا العام في طياته مشهدين متعاكسين داخل مدينة القدس، يمثلان إرادتين متناقضتين تسعيان لرسم مستقبل المدينة المقدسة.
تأتي انتفاضة رمضان في مدينة القدس في سياق مجابهة المقدسيين للمخططات التهويدية الإسرائيلية الساعية إلى تغيير الوضع الراهن في باب العمود، أحد الأبواب الرئيسية للبلدة القديمة في القدس، والتي اندلعت شرارتها إثر المسيرة الاستيطانية التي دعت إليها منظمة "لاهافا" التهويدية الدينية، إذ إنَّ منع الفلسطينيين من التواجد عند باب العمود الَّذي يعتبر الأكثر حيوية والأهم اقتصادياً للحركة التجارية لأهل البلدة القديمة، هو عبارة عن تهيئة الأجواء لطرد للمقدسيين من تلك المنطقة من جهة، الأمر الذي يتساوق مع المساعي الصهيونية الحثيثة لتهويد القدس، وخصوصاً أحياء البلدة القديمة. ومن جهة أخرى، هو مسعى لفتح ممر واسع لوصول قطعان المستوطنين بسهولة إلى المسجد الأقصى المبارك أثناء محاولاتهم المتكررة لاقتحام باحاته.
يحمل شهر رمضان هذا العام في طياته مشهدين متعاكسين داخل مدينة القدس، يمثلان إرادتين متناقضتين تسعيان لرسم مستقبل المدينة المقدسة:
المشهد الأول هو تحضير الاستيطان الصهيوني لأكبر عملية اقتحام لباحات المسجد الأقصى، بدعوة من جماعات المعبد التهويدية يوم 28 رمضان، بذريعة "يوم القدس العبري" أو ذكرى "استكمال احتلال القدس"، تعبيراً عن إرادة صهيونية تهويدية عارمة تسعى إلى طمس هوية القدس الإسلامية العربية لحساب خلق "أورشليم" التلمودية الصهيونية. وفي السياق ذاته، تحويل البلدة القديمة، بأحيائها العربية المسيحية والإسلامية، إلى مدينة "داوود" التلمودية الاستيطانية اليهودية، كمقدمة لبناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى.
المشهد الآخر هو إحياء الفلسطينيين والمسلمين في أرجاء العالم، ومعهم كل الأحرار، يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان؛ ذلك اليوم الذي أطلق نداءه الأول الإمام الخميني (رحمة الله) في السابع من آب/أغسطس 1979، بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران مباشرة، تأكيداً لموقع القدس الجوهري في قلوب كلّ المسلمين في أرجاء المعمورة، وفي عقولهم وأفعالهم.
تشهد مدينة القدس في حقيقة الأمر صراعاً يومياً، وعلى مستويات مختلفة، بين إرادة الباطل الصهيونية التي تسعى إلى تهويد المدينة المقدسة وطمس هويتها الحضارية الفلسطينية والعربية والإسلامية منذ احتلال المدينة في العام 1967، وإرادة الحق الفلسطيني العربي الإسلامي المتجذر في تاريخ القدس، والذي تشهد له حجارة المدينة المقدسة وأبنيتها العتيقة.
وما بين يوم القدس العالمي والقدس العبري، يبقى السؤال المطروح: كيف نحافظ على هوية القدس العربية الإسلامية؟ وكيف ندعم صمود المقدسيين في مجابهتهم الاحتلال والاستيطان والتهويد في المدينة المقدسة؟ وكيف ينتصر يوم القدس العالمي على يوم القدس العبري؟
إننا نرى أن هناك عنوانين رئيسيين للإجابة:
الأول: استراتيجية مواجهة فلسطينية
يحتاج أهلنا في القدس في حربهم على المخطط التهويدي الاستيطاني إلى استراتيجية مواجهة مقدسية تراكم محطات الانتصار المقدسية على التهويد والاستيطان، الأمر الذي ظهر جلياً في معركة البوابات الحديدية والكاميرات على باب الأسباط، مروراً بفتح مصلى الرحمة، وصولاً إلى إزالة الحواجز عن باب العمود، إذ إن وجود استراتيجية تراكم تلك الانتصارات يعد شرطاً أساسياً في تحقيق الانتصار في الحرب، وضامناً لعدم ضياع محصلة الانتصارات في تلك المعارك المقدسية هباء، من دون أن تؤثر في نتيجة الحرب النهائية على التهويد والاستيطان الصهيوني في القدس.
رغم أن الحالة الفلسطينية مأزومة، في ظل الانقسام الذي زاد، في اعتقادنا، بعد الإعلان عن الانتخابات، ليصل إلى انقسام داخل التنظيم الواحد، فإنَّ المقدسيين قادرون على قيادة الكل الفلسطيني في الحرب ضد الاحتلال وتهويد المدينة المقدسة. لذلك، على الكل الفلسطيني أن يجعل القدس عنواناً للمعركة مع الاحتلال الإسرائيلي على كل جبهات تواجده، وأن لا يتأخر في تقديم الدعم والمساندة للمقدسيين الصامدين في خط المواجهة الأول، وخصوصاً أن القدس والمقدسيين هم الأقل تأثراً بلوثة الانقسام الفلسطيني ومسبباته، وبالتالي تمتلك القدس القدرة على تشكيل عنوان وحدة للكل الفلسطيني، فالقدس يعشقها الوطني، ويتعبّد بها الإسلامي، ويصلي فيها المسيحي، وتهفو إليها قلوب الأحرار، ومن أجلها تراق الدماء بلا تردد، الأمر الذي كان واضحاً في دخول الضفة وغزة والشّتات الفلسطيني على خط المواجهة مع الاحتلال منذ بدايات انتفاضة رمضان في باب العمود.
ثانياً: استراتيجية مساندة عربية وإسلامية وعالمية
لا يجوز للعرب والمسلمين وكل أحرار العالم التخلي عن الفلسطينيين في حربهم ضد تهويد القدس بكل ما تحمله من رمزية دينية وعقائدية، ناهيك بأنَّ هذه الحرب التي يخوضها الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، والتي تمنعه من الاستقرار، تصبّ في خدمة الأمن القومي للمحيط العربي والإسلامي، وتحدّ من توسع النفوذ الصهيوني وتمدّده إلى باقي الإقليم العربي والإسلامي، والأهم أنها تفضح الوجه الاستعماري للمشروع الصهيوني الأميركي أمام شعوب العالم.
من هنا، تبرز أهمية يوم القدس العالمي كدعوة لكل الجماهير الإسلامية والعربية ولكل أحرار العالم، لا للتضامن ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني فحسب، بل أيضاً لتشكيل محور مقاومة تكون القدس عاصمته وغايته الأسمى، وتتوحد من خلاله كل مجهودات الأمة ومقدراتها في مجابهة المشروع الصهيو - أميركي الساعي إلى فرض يوم القدس العبري على واقع المدينة المقدسة وتاريخها الحضاري العربي والإسلامي.