- وليد القططي
لتأكيد التمايز بين نهجي المقاومة والمساومة، ومحوري المقاومين والمطبعين، أصبح إحياء يوم القدس العالمي أكثر إلحاحاً وأهمية من أي وقتٍ مضى.
- أصبح إحياء يوم القدس العالمي بمثابة ميلاد متجدد سنوياً.
كتاب "الخميني.. الحلّ الإسلامي والبديل" للدكتور المفكّر فتحي الشقاقي صدر في العام 1979م، واعتبر فيه الكاتب الإمام الثائر آية الله الخميني أحد رَجُلي القرن العشرين، مع الإمام الشهيد حسن البنا، وعدَّ الثورة الإسلامية في إيران أحد أهم أحداث القرن العشرين.
في العام نفسه، انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية، وأعلنت الجمهورية الإسلامية في إيران، وتبعهما إعلان يوم القدس العالمي في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك من كل عام، للتضامن مع الشعب الفلسطيني المسلم ودعم قضية فلسطين والقدس.
وفي حدثٍ ثالث، كانت أفغانستان على موعدٍ مع الغزو السوفياتي، ليبدأ الشعب الأفغاني رحلة الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي، وليبدأ تدفق "الأفغان العرب" للجهاد في أفغانستان على بساط الريح الأميركي السعودي، ليكونوا وقوداً للحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي. وعلى هامش تلك الأحداث الثلاثة، كان هناك مشهدان حواريان منفصلان في مطلع ثمانينيات القرن العشرين. كان كاتب هذه السطور مُعايشاً للأول ومُشاركاً في الآخر.
مشهد الحوار الأول بطله شيخ فلسطيني ذو لحية طويلة وجلباب قصير. بدأ الحوار بتوجيه الشيخ الأمر إلى مريديه بتجهيز أنفسهم للسفر إلى أفغانستان، لكسب شرف الجهاد ضد الكفار فيها، والفوز بأجر الشهادة على أرضها، فسأله أحدهم متعجّباً: كيف نترك الجهاد في فلسطين، ونسافر للجهاد في أفغانستان؟ أليست فلسطين أولى بجهادنا واستشهادنا؟! أجابه الشيخ مُبرراً: لا توجد راية للإسلام في فلسطين نجاهد تحتها. تلك الراية الإسلامية موجودة في أفغانستان، والأخيرة هي طريقنا لتحرير فلسطين ومحطتنا الأولى نحو القدس.
عندها، سأله آخر مندهشاً: كيف تكون أفغانستان طريقنا إلى فلسطين والقدس؟! أجابه الشيخ موضحاً: في أفغانستان، سنقيم قاعدة للجهاد ندرّب فيها المجاهدين ونعدّهم للقتال في فلسطين، لنعود بهم بعد النصر في أفغانستان إلى فلسطين مُجاهدين ومُحررين.
كانت هذه الجرعة من التبرير كافية لتُسافر المجموعة إلى أفغانستان للجهاد، وليتبعها المئات، فالآلاف، من العرب، في طوابير تُساق إلى الذبح على حَجَرِ الحرب الباردة، حتى إذا ما انتهى دورهم، عاد الناجون من المذبحة، ليكونوا مجاهدين تحت الطلب الأميركي في كل بقاع الأرض، من الشيشان إلى مالي، مروراً بسوريا والعراق، ما عدا فلسطين والقدس.
كان خروج هؤلاء الشبان الفلسطينيين والعرب للجهاد في أفغانستان دون فلسطين عنواناً لمشهد الحوار الثاني، وبطله مفكّر فلسطيني ذو لحيةٍ قصيرة وبدلةٍ رسمية. بدأ الحوار بعد تلقيه سؤالاً من تلاميذه عن كيفية حل الإشكالية التي أدت إلى خروج هؤلاء الشباب المسلمين للجهاد في أفغانستان بدلاً من فلسطين، ودفعت الشباب الوطني إلى القتال في فلسطين من دون تبنّي الإسلام كمرجعية نضالية ونظرية ثورية.
أجابهم المفكّر: إنَّ حل الإشكالية يكون بالجمع بين الإسلام كمنطلق، وفلسطين كهدف، والجهاد كوسيلة، فسألوه عن البندقية البعيدة عن الإسلام، والبندقية البعيدة عن فلسطين: ما شأنهما؟ فأجابهم: إنَّ البندقية التي لا يوجّه الإسلام بوصلتها تائهة، والبندقية التي لا يُصوّب رصاصها إلى فلسطين والقدس مشبوهة.
هنا، سألوه عن القدس: ما مكانتها من الصراع؟ فأجابهم: القدس قلب فلسطين، وفلسطين قلب العرب والمسلمين، فهي تختصر فلسطين والعالم، ومركز الصراع الكوني بين تمام الحق وتمام الباطل. وعند الحديث عن القدس، كان السؤال عن يوم القدس العالمي حتمياً، فأجاب المفكر موضحاً عبقرية التقاء الزمان والمكان؛ زمان شهر رمضان المبارك، ومكان القدس المباركة، في يوم القدس العالمي، ليلتقي الزمان الذي يحمل ذكريات أزمنة النصر بالمكان الذي يحمل وعد النصر... وعد الآخرة، حتى تكتمل دائرة النصر الإلهي بإساءة وجوه بني إسرائيل، وتتبير علوهم، وتدمير إفسادهم. وعندها، ستكون القدس لا "أورشليم".
وحتى تكون القدس لا "أورشليم"، عندما يكتمل مشهد النصر الإلهي، سيبقى يوم القدس العالمي فاصلاً بين نهجين؛ الأول يوجّه بوصلته نحو القدس، ويصوّب بندقيته نحو الكيان الغاصب للقدس، ويريد أن تكون كل البلاد فلسطين، وكل الأيام للقدس، ويتوق إلى رؤية كل الأمة عزيزة، ويزرع كل الأرض مقاومة، والآخر يوجّه بوصلته إلى كلّ الاتجاهات ما عدا القدس، ويصوّب بندقيته إلى كل الأماكن، ما عدا الكيان الغاصب للقدس، ويُريد أن تُحذف فلسطين من الجغرافيا، ويُحذف يوم القدس من التاريخ، ويتوق إلى رؤية كل الأمة ذليلة، ويزرع كل الأرض مساومة.
وحول النهجين المتناقضين، تمايزت الأمة في محورين، جمع الأول كل أحرار الأمة في الخندق المقاوم للاستعمار الصهيو-أميركي، في محورٍ مركزه القدس قلب فلسطين، وأطرافه حركات المقاومة ودول الممانعة الرافضة أن تكون الإرادة الأميركية قدراً جبرياً على الأمة، والرافضة أن تكون العربدة الإسرائيلية قضاءً قهرياً على الأمة.
أما الآخر، فقد جمع كل أذلاء الأمة في الخندق الخاضع للاستعمار الصهيو-أميركي، في محورٍ مركزه "أورشليم" قلب "إسرائيل"، وأطرافه عواصم أنظمة التطبيع العربية وجماعات التكفير الوحشية، وهما - المطبّعون والتكفيريون - وجهان لعملةٍ أميركية واحدة طُبعت في "أورشليم"، وفرعان لشجرةٍ خبيثة واحدة ارتوت من بركةٍ آسنة نفث فيها قرن الشيطان.
ولتأكيد التمايز بين نهجي المقاومة والمساومة، ومحوري المقاومين والمطبعين، أصبح إحياء يوم القدس العالمي أكثر إلحاحاً وأهمية من أي وقتٍ مضى، ذلك أنَّ مستضعفي الأرض، بعد تفرّد الهيمنة الصهيو-أميركية بالعالم، أصبحوا أكثر بؤساً، وأنَّ مُسلمي الأمة بعد الفتن المذهبية أصبحوا أكثر تشرذماً، وأنَّ عرب المحيط والخليج بعد سباق التطبيع مع العدو أصبحوا أكثر بُعداً عن القدس وقُرباً من "أورشليم"، وأنَّ شعب فلسطين بعد رحلة التيه الطويلة في صحراء أوسلو القاحلة ونفق الانقسام المظلم وملهاة الانتخابات الحزينة، أصبحوا أكثر بُعداً عن محطة العودة إلى فلسطين، وأبعد مسافةً عن طريق تحرير القدس.
ولكي نقترب من محطة العودة إلى فلسطين وطريق تحرير القدس، أصبح إحياء يوم القدس العالمي بمثابة ميلاد متجدد سنوياً، يمنحنا الفرصة والقوة لإعادة تصويب البوصلة نحو فلسطين والقدس، ويمنحنا الرجاء والأمل لتتوحد الأمة الإسلامية حول القدس، لتحقق شرطي الإيمان والقوة في جيل وعد الآخرة عباد الله أولي البأس الشديد، ليسوؤوا وجوه الصهاينة، وليتبروا إفسادهم، ويدخلوا المسجد الأقصى في القدس كما دخلوه أول مرة، ويمنحنا الرؤية والروح، ليتوحّد الشعب الفلسطيني حول القدس في مشروعٍ وطني عنوانه العودة إلى مرحلة التحرير الوطني، ووسيلته الصمود والمقاومة، وهدفه التحرير والعودة، بعد أن عاشوا ردحاً من الزمن أسرى لوهم الاستقلال وكابوس الانقسام وسراب الانتخابات...
وحتى يتحقق وعدُ الآخرة بالنصر وتحرير القدس، سيظل يوم القدس العالمي مصباحاً يُنير للأمة طريقها لتحرير القدس، وسيظل فكر الإمام الثائر آية الله الخميني - مبدع يوم القدس العالمي - نبراساً يضيء للأمة طريقها لاستعادة القدس.