- قاسم عز الدين
المجلس العسكري الذي يُطيح غريمه، تربّص به بدعم أميركي - إسرائيلي ودولي - إماراتي، لكن الشريك السياسي يسلّم رقبته لفخّ أوهام الوصفة الأميركية للانتقال الديمقراطي.
- الانقلاب العسكري على نظام البشير هو العمود الفقري الذي اعتمدته أميركا و"إسرائيل" وأتباعهما من أجل انضمام السودان إلى عملية الأسرلَة.
لم تتفاجأ قوى الحرية والتغيير بإعلان الانقلاب العسكري، الذي حاولت تلافي صدمته رمزياً بإحياء ذكرى سقوط انقلاب الفريق إبراهيم عبود في العام 1964. ولم يفلح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بمحاولة تأخير الانقلاب في مسعاه لإنشاء "خلية أزمة"، حين اصطدم متأخّراً "بأخطر أزمة تُنذر بشرّ مستطير"، إنما سبق السيف العذل.
الانتفاضة الشعبية ضد نظام عمر البشير في العام 2018 شكّلت مناسبة لانقلاب رموز نظام البشير في المؤسسة العسكرية تحت وصاية ترامب ونتنياهو ومحمد بن زايد ومحمد بن سلمان، فالبرهان، قائد القوات البرّية، قاد المشاركة في الحرب على اليمن، و"حميدتي"، قائد "الجنجويد"، هو مؤسّس الميليشيات المسلّحة التي تبيع خدماتها مقابل الدعم المالي.
الانقلاب العسكري على نظام البشير هو العمود الفقري الذي اعتمدته أميركا و"إسرائيل" وأتباعهما من أجل انضمام السودان إلى عملية الأسرلَة، ولأهداف استراتيجية، في القرن الأفريقي، واعتماد السودان "شريكاً استراتيجياً" لأميركا والاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" في مواجهة التوسّع الروسي والصيني.
بموازاة اعتماد المؤسّسة العسكرية عصا استراتيجية ضاربَة، كان لا بدّ من تدعيم "التحوّل" الاستراتيجي بشريك سياسي (مدني) يغطي السيطرة الأميركية والأوروبية على السودان ببردعة "الانتقال الديمقراطي"، ويتكفّل بإرساء التبعية السياسية "للمجتمع الدولي" والتبعيّة الاقتصادية الكاملة تحت وصاية البنك الدولي، بانتظار انتقال السلطة إلى الحكم المدني.
فخ الانتقال الديمقراطي
تقاسم السلطة والمهام بين المؤسسة العسكرية والحرية والتغيير وفق "الوثيقة الدستورية" في آب/أغسطس 2019، كفل اليد الطولى للمجلس العسكري برئاسة "المجلس السيادي" وبحفظ السيطرة العسكرية على 80% من الاقتصاد والتجارة والاتفاقات الدولية، ولا سيما مع "أفريكوم" والاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" والإمارات.
في المقابل، راهنت حكومة عبد الله حمدوك وقوى الحرية والتغيير على التظاهرات الشعبية للحدّ من تغوّل المؤسسة العسكرية، وراهنت على تأثير "المجتمع الدولي" لتسليم السلطة لـ"المكوّن المدني".
بينما اندلعت الانتفاضة الشعبية ضد البشير بإشعال فتيل أزمات النظام رفضاً لزيادة أسعار الخبز والوقود، علق "المكوّن المدني" في عنق الزجاجة، نتيجة تشبّعه بأساطير المراهنة على طقوس تنظيم السلطة والاحتكام إلى اتفاق "الوثيقة الدستورية"، في ظل اختلال موازين القوى لمصلحة المجلس العسكري.
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك استند إلى خبرته السياسية في مؤسَّسات الأمم المتحدة في إدارة النزاعات اعتماداً على تشكيل المفوّضيات "لخفض التصعيد"، بينما راهنت الحرية والتغيير على إجراءات تشكيل سلطة مدنية على الورق، ظناً منها أنَّ مجرّد تنحي العسكر للسلطة المدنية كفيل باجتراح المعجزات لحلّ أزمات الانهيار.
خلال سنتين ونيّف، لم يتناول "المكوّن المدني" أياً من أزمات المعيشة وأزمات التبعية، بل لم يتطرّق إلى مقاربة حلول سياسيّة، لأنه يتجنّب الصدام مع المقاربة الأميركية – الأوروبية، ويحاذر الصدام مع وصاية البنك الدولي و"الدول المانحة".
في هذا السياق، ازدادت مستويات الفقر والبطالة بنسبة 20%، وازدادت معدلات الجريمة، وتراجعت مستويات الخدمات التي كانت شبه معدومة، لكن الحرية والتغيير ظلّت ترى أن مطالب الفئات الشعبية تنحصر بالدعوة إلى سلطة المدنية، ولم تعر اهتمامها لمعالجة سياسات التبعية الوطنية والاقتصادية التي تؤدي إلى الانهيار وتهميش الفئات الشعبية.
في السياق نفسه، عقد رئيس الوزراء، وبتمثيل من المجلس العسكري، "اتفاقية جوبا للسّلام" مع الحركات المسلّحة في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2020، أملاً بحل الصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور الّذي أدّى إلى تشريد أكثر من مليونين ونصف المليون وقتل مئات الآلاف.
لكنَّ الاتفاق على إعادة توزيع الأراضي وحلّ مشكلة الحواكير وحل قضية النازحين... يصطدم بمشاريع الاستثمارات الغربية و"الدول المانحة"، ولم ينح حمدوك نحو الصين أو روسيا، فبقي الاتفاق حبراً على ورق، ما أدّى إلى انشقاق حاكم دارفور مني أركو منادي ووزير المالية والتخطيط جبريل إبراهيم وغيرهما والانضمام إلى حركة المجلس العسكري.
زيادة في الطين بلّة، لم يعالج رئيس الوزراء اللغم المتفجّر في شرق السودان، حيث المرفأ؛ شريان الخرطوم والسودان، فقد تجنّب الاصطدام بمصالح الإمارات وأرتيريا و"حميدتي" التي تُشعل الاقتتال المسلّح بين قبائل بني عامر وقبائل النوبة من أجل السيطرة على بورتسودان والتمدّد من أريتيريا على البحر الأحمر.
اختلال معادلات موازين القوى يستغلّها المجلس العسكري بقطع رأس غريمه. ولا شكّ في أنه سينكّل بالقوى الوطنية، وفي طليعتها "تجمّع المهنيين" ونائب رئيس "لجنة إزالة التمكين" محمد الفكي سليمان، الذي تجرأ بالإشارة إلى فساد المؤسسة العسكرية.
وفي أغلب الظنّ أنَّ أميركا وأوروبا ستتجاوز "صفعة الديمقراطية"، بالعودة إلى "مكوّن مدني" أكثر انسجاماً مع ديمقراطيتها في تأليف "حكومة كفاءات"، لكن الدرس الأهم من الفشل، ليس التصويب على المجلس العسكري، أداة التبعية والانهيار، بل التصويب على التبعية لكسر أداتها.
المصدر:المیادین